فلك ابن الهيثم: مقالة في الوضعية الراهنة للبحث
Falak Ibn al-Haytham
Maqāla fī al-waḍʿiyyah al-rāhina li al-baḥth
Ibn al-Hayham’s Astronomy:
on the Current State of Affairs
فلك ابن الهيثم:
مقالة في الوضعية الراهنة للبحث[1]
محمد أبركان
Abarkan Mohamed
جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس
Sidi Mohamed Ben Abdellah University, Fez
Abstract: No one among the scholars of Ibn al-Haytham’s (d. 432/1041) astronomy doubts the authenticity of treatises like Doubts concerning Ptolemy or “A Solution of the Doubts concerning the Winding Motion,” but when it comes to another treatise, entitled “On the Configuration of the World,” one finds that this consensus stops, because Roshdi Rashed refuses the idea that this treatise is written by al-Hasan Ibn al-Haytham. According to him, this treatise is written by another, who is Muhammad Ibn al-Hasan Ibn al-Haytham, who was a philosopher and not a scientist. But are his arguments (Roshdi Rashed) sufficient and convincing?
Keywords : Ibn al-Haytham, Ptolemy, astronomy, the Configuration of the World, doubts,
ملخص: لا يختلف الدارسون والباحثون في فلك ابن الهيثم، حول نسبة مقالة الشكوك على بطلميوس أو مقالة في حل شكوك حركة الالتفاف إلى العالم الحسن ابن الهيثم (432𞸤/ 1041م)، لكن عندما يتعلق الأمر بمقالة أخرى نسبتها كتب الطبقات إلى هذا العالم، وهي المقالة في هيئة العالم، نجد الاختلاف هو الذي يحل محل الاتفاق حول المقالتين المذكورتين قبل هذه المقالة، وحول مقالات أخرى كتبها هذا العالِم في الفلك أيضا. إن رافع راية هذا الاختلاف هو الدارس رشدي راشد، حيث يعتبر أن الدارسين والباحثين في فلك الرجل ينسبون عن خطأ المقالة في هيئة العالم للعالِم الحسن ابن الهيثم؛ والصحيح، حسب هذا الدارس، هو أن تُنسب إلى فيلسوف عاش في نفس الفترة التي عاش فيها العالِم، ويتعلق الأمر بمحمد بن الحسن بن الهيثم. وقد أدلى رشدي راشد بحجج عول عليها لدعم دعواه هذه؛ في حين أشار دارسون آخرون، دون أن يخصصوا حيزا هاما كدراسة أو بحث في المسألة، إلى أن حجج رشدي راشد تبقى غير مقنعة. نخصص هذا البحث للحديث عن هذه المقالة كيف بدأ الاهتمام بها؟ وكيف تطور هذا الاهتمام حتى أفضى إلى وضعية الشك في نسبتها إلى العالِم الحسن ابن الهيثم؟ لماذا أثارت هذا الخلاف بين الدارسين والباحثين؟ هل حجج رشدي راشد، حقا، غير مقنعة، الشيء الذي يجعل من افتراض كون هذه المقالة هي لصاحبها العالم الحسن ابن الهيثم يبقى، إلى حدود الآن، افتراضا قويا؟
الكلمات المفتاحية: ابن الهيثم، بطلميوس، الفلك، هيئة العالم، الحجج، الشكوك.
مقدمة
سوف ينصب اهتمامنا في هذا البحث حول مقالة كُتبت في سياق تطور البحث الفلكي عند المسلمين خلال القرون الوسطى، هؤلاء الذين طوروا أبحاثهم الفلكية انطلاقا من التفاعل والاشتباك مع من سبقهم من الأمم إلى البحث في هذا المجال العلمي؛ وهي مقالة أُلفت أساسا لغرض تبسيط الفلك والكسمولوجيا انطلاقا من وصف الكون. يتعلق الأمر بمقالة بعنوان المقالة في هيئة العالم أو في علم الهيئة كما ورد كعنوان لها في بعض النسخ المخطوطة.[2]
تنسب كتب الطبقات هذه المقالة للعالِم الحسن بن الهيثم (ت. حوالي 432𞸤/1041م) كما أن الدارسين والباحثين المعاصرين الذين شَغَلهم الاهتمام بعلم ابن الهيثم لا يترددون في نسبة هذه المقالة إلى هذا العالِم؛ هذا وإن كانوا لم يخصصوا، في حدود علمنا، دراسة أو بحثا يتناول هذه المسألة المتعلقة بصحة نسبة هذه المقالة إلى الحسن ابن الهيثم. والراجح أن هؤلاء ينسبون هذه المقالة إلى الحسن ابن الهيثم ولا يقرون بوجود شخص آخر كان فيلسوفا، استنادا إلى ما ورد في كتب الطبقات، و إلى بعض المعطيات التي وفرها سياق الاهتمام بتاريخ العلم بصفة عامة وتاريخ علم الفلك بصفة خاصة. أما وقد نهض دارس آخر للشك في نسبة هذه المقالة إلى العالِم الحسن ابن الهيثم، فإن هذا يضعنا أمام وضعية مشكلة، تستدعي تخصيص بحث لها.[3] وعليه، فإن هذه الشكوك التي عبر عنها هذا الدارس تقع في صلب ما يحركنا إلى إنجاز هذا البحث الذي سنبني فيه فرضيات، كما سنعمل على تقوية أخرى أدلى بها بعض الدارسين، عسى أن يسهم هذا في رفع اللبس الذي يحيط بهذه المقالة؛ هذا، إضافة إلى اعتبارات أخرى تحركنا، أيضا، منها أن هذا المشكل قد أثير بين الباحثين والدارسين المهتمين بالعلوم عند العرب، ويطرح إشكالات مرتبطة بالاهتمام بالتراث العلمي العربي تحقيقا ودراسة، وكذا إسهام هذا التراث في تطور البحث العلمي في سياق القرون الوسطى. ومحاولة للإحاطة بهذه الإشكالات، سنعمل في هذا البحث على الوقوف عند هذه الأمور:
1. إلقاء نظرة حول تحقيق إسحق صفي لنغرمان لهذه المقالة (انظر: 𞸤 2 أسفله).
2. عرض لصدر المقالة وذلك في إطار اهتمامنا الحالي بها دراسة وتحقيقا.
3. وضع هذه المقالة في سياق تلقي الدارسين والباحثين المعاصرين لها، و في هذا الإطار سينصرف اهتمامنا نحو الشكوك التي أثارها أحد هؤلاء الدارسين بصدد نسبة هذه المقالة إلى الحسن بن الهيثم حسب ما تمت الإشارة إليه آنفا.
إلقاء نظرة حول تحقيق إسحق صفي لنغرمان للمقالة
بداية، يجدر بنا أن نتساءل، كيف انبثق اهتمام هذا الدارس بفلك ابن الهيثم عامة وبالمقالة في هيئة العالم خاصة؟ وبخصوص هذا السؤال، نجد أن الجواب قد ورد واضحا على لسان هذا الدارس؛ إذ يرى أنه لا بد من إيلاء الاهتمام لتاريخ العلم باعتباره وقائع وتفاصيل، ومن ثم ضرورة الحصول على النصوص الشاهدة على ذلك التاريخ من حيث أنها تمثل مظهرا من مظاهر الفكر الإنساني. وإذا كانت حقبة القرون الوسطى قد تميزت بانخراط المسلمين في تطوير البحث في هذا العلم، فإنه لا مناص من الاهتمام بالنصوص التي كتبت أصلا باللغة العربية.[4] ومما دعاه إلى الاهتمام بالمقالة في هيئة العالم تحديدا، يمكن ذكر أمور عدة، إلا أننا سنقتصر على الإشارة إلى بعضها والتي لها علاقة بالإشكالات المثارة أعلاه. وفي هذا السياق، يرى هذا الدارس أن المهمة الأولى الملقاة على عاتق مؤرخي العلوم، في إطار هذا الاهتمام بتاريخ العلوم خلال حقبة القرون الوسطى، تتمثل في توفير هذه المادة (النصوص المكتوبة باللغة الأصلية) للدارسين.[5] كما أن هناك باعثا آخر دعاه إلى الاهتمام بهذه المقالة على مستوى نشرها،[6] ويتعلق بما أورده مؤرخ العلوم الفرنسي بيير دوهيم P. Duhem (1861-1916) بخصوص هذه المقالة وذلك في سياق البحوث التي كرسها لتاريخ الفلك والكسمولوجيا،[7] أو في سياق اهتمامه بتطور النظرية الفيزيائية من أفلاطون (347-427 ق م) إلى جاليلي (1564-1642).[8] ويذكر إسحق صفي لنغرمان في مقدمة نشرته أن بيير دوهيم أصدر حكما يعاكس الصواب بصدد هذه المقالة؛ يقول بهذا الصدد: ”ومنذ سبعين سنة تقريبا نظر المؤرخ دوهيم في المقالة التي نبحثها هنا، وحقا فإنه لم ير إلا قطعا من الجزء الثاني، وفي الترجمة اللاتينية فقط، واستنتج أن غرض المقالة إصدار هيئة تامة تشمل أجسام الفلاسفة ودوائر التعليميين، تقليدا لما قام به بطلميوس في كتاب آخر في علم الهيئة، الاقتصاص ومنذ نشر دوهيم رأيه، لا يزال الباحثون يكررونه المرة تلو الأخرى.“[9]
يمكن، إذن، عدُّ إرادة مراجعة هذا الرأي الذي صدر عن دوهيم أحد البواعث التي حركت الدارس والباحث في تاريخ العلم إسحق صفي لنغرمان إلى الاعتناء بهذه المقالة على مستوى البحث كيف لا، وهو يدعو، كما مر بنا، إلى الاهتمام بتفاصيل ووقائع تاريخ العلم، خصوصا ما يتعلق بحقبة القرون الوسطى.
ولقد قام لنغرمان بتحقيق هذه المقالة اعتمادا على مخطوطين، أحدهما محفوظ في المكتب الهندي (انديا أوفس) في لندن، تحت رقم 734، والآخر موجود بمكتبة كستمونو بتركيا، تحت رقم 2298؛[10] ويذكر في تصدير تحقيقه، أنه بعدما أنهى تحقيقه، حصل له علم بوجود مخطوط آخر في المغرب،[11] لكنه، كما يذكر، لم يتمكن من الحصول عليه؛ ولهذا فقد اكتفى في تحقيقه لنص المقالة بالمخطوطين المذكورين عنده. وإذا كان لنغرمان يشير في تصدير تحقيقه إلى نقص اعترى المخطوط الموجود في مكتبة كستمونو، فإننا من اللازم أن نشير إلى أن المخطوط الآخر الذي اعتمده ناقص أيضا، وذلك لخلوه من الأشكال الهندسية.[12] وبهذا يكون هذا الدارس قد اعتمد في تحقيقه لمقالة ابن الهيثم على نسختين ناقصتين.
هذا فيما يخص المخطوطات التي اعتمدها هذا الباحث في تحقيقه للمقالة؛ أما منجزه في التحقيق، أي نشرته، فقد شابتها عدة عيوب، نذكر منها عدم اعتنائه بعلامات الترقيم؛ إذ الملاحظ أنه لم يعر أي اهتمام لهذا الجانب الهام في عمل التحقيق؛[13] هذا إضافة إلى بعض الأخطاء اللغوية والتعبيرية والمطبعية التي شابت نشرته، والتي جاءت، لهذه الأسباب، نشرة يصعب التعويل عليها من قبل الباحثين. على أن ما نقوله هنا لا يقلل، البتة، من شأن منجز الباحث إسحق صفي لنغرمان؛ إذ أن نشرته أفادتنا كثيرا في البحث في هذه المقالة؛ ثم إن عمل التحقيق كما هو معلوم عند أهله، هو عمل لا يكتمل لتعذر الوصول إلى النسخة التي كتبها صاحبها بخط يده. وعليه، فإننا نعتقد أن هذه أسباب كافية للتفكير في إعادة تحقيق المقالة.
- صدر المقالة في هيئة العالم مع ذكر المخطوطات المتوفرة لدينا[14]
نحيط القراء علما بأن الغرض من إيراد هذه القطعة من المقالة قيد الدراسة هو أن نضعهم في صورة ما نحن بصدده، أي أن يطلعوا على قطعة هامة من هذه المقالة. ونقول قطعة هامة، لأن الأمر يتعلق بصدر المقالة؛ ذلك لأن المسلمين عودونا في أغلب ما كتبوه على أن يضعوا لكل مقالة أو كتاب يكتبونه صدرا أو مقدمة، يذكرون فيها الغرض من تأليفهم؛ وعليه تكون الفائدة من هذا الصدر أو هذه المقدمة هي وضع القارئ أو المخاطب أمام صورة تبين ما حركهم إلى تأليف ما ألفوه. بهذا الصدد، لن يتأخر قارئ صدر المقالة في هيئة العالم من الانتباه إلى أمر هام، يتعلق بكون الذي حرك ابن الهيثم إلى تأليف هذه المقالة هي أمور، منها أن الرجل لم يكن راضيا على ما ألفه بعض من سبقه إلى الكتابة في أمور الهيئة بالطريقة التي جاءت بها مقالته هذه.[15]
إن عدم رضا ابن الهيثم على ما ألف قبله في هيئة العالم، يمكن أن يكشف لنا عن الحس النقدي الذي بدأ ينشأ عند هذا العالم؛ فهو وإن كان يصرح بأنه يتبع بطلميوس (ت. حوالي 170م) في وصفه لهيئة العالم، فإنه يلمح إلى أن هذا الوصف ليس بالأمر اليسير كما قد يُعتقد.
وتتميما لهذا الغرض، أيضا، نورد ورقة ظ من إحدى المخطوطات التي نتوفر عليها، ويتعلق الأمر بمخطوط الخزانة الملكية رقم 13874، الذي سوف نذكر علاقته بمخطوط آخر يوجد بالخزانة نفسها.
بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآلي صحبه وسلم تسليما. اللهم الإعانة على التمام.
قال الشيخ أبو علي الحسن بن الهيثم رحمه الله تعالى ورضي عنه آمين:
لم يزل كثير من أصحاب التعاليم ممن أنعم النظر في علم الهيئة وأدرك حقائق الصور الموجودة لجملة العالم ولجل أجزائه، يجردون قولا مرسلا، يشرحون فيه بالجليل من القول كيفية هيئة شكل العالم، وكل واحد من أجزائه الأول وأحوال جميع الأجرام السماوية وتركيب بعضها عند بعض، وأبعاد بعضها من بعض، ومقادير أجرامها، واختلاف أوضاعها، وأنواع حركاتها، وأصناف تشكلها؛ إلا أنهم سلكوا في ذلك طريقا مطابقا في الظاهر للدقيق من النظر في علم الهيئة ومنتزعا من تلك الأقاويل.
ولأن تلك الأقاويل، أعني الدالة على صور الأشكال وقوانين الحركات بالأرصاد المحققة والبراهين المصححة، إنما هي مبنية على حركات نقط متوهمة على محيطات دوائر معقولة، على ما تبين لنا في الموجود من كتبهم؛ ومفروضة كذلك بالإشارة منهم، لا بالتصريح، على سطوح أكر مجسمة، هي المتحركة بذواتها وبتلك النقط وبتلك الحركات. [ولقد] صار قولهم فيما شرحوه مقصورا على تلك الدوائر والنقط فقط؛ إذ لم يجعلوا قصدهم إيضاح الطريق الذي به يمكن أن تتم معرفة تلك الحركات المختلفة، مع فرضها في سطوح أكر مجسمة، ولا كيف حال الأكر الحاملة لها مع اختلاف مراكزها؛ بل جعلوا أغراضهم التقاط ما ذكر منها بالتفصيل وأحوالها وإيراده جملا مجردة من البراهين والطريق المسلوكة في وجوده لتسهل ، لا غير، على من هم أن يستفيد معرفة هيئة الحركات، متسلما لا باحثا، ومقلدا أهل الصناعة لا مستبصرا فهم ما أوردوه من ذلك، وتخيل ما حددوه ورسموه.
وليست أقاويلهم مع هذه الحال في غاية الظهور في كل المواضع، ولا مستوفية، أيضا لجميع ما تقتضيه المعاني؛ بل مقنعة في بعض المواضع، متسمحة في البعض. وليس قصدنا في هذا القول طريق الطعن والتبكيت؛ إذ ممكن أن يكون أصحاب هذه الأقاويل، وإن عدلوا عن المعاني التي أهملوها، متصورين لها، قائمين بها؛ ولكن متحرين صفة الحال وممهدين بذلك طريقا للقول على هذه المعاني، مع سبقهم إلى الكلام عليها؛ ومبينين تغاير الأقوال فيها من بعض الجهات وإن توافقت من بعض.
فنحن قائلون في هيئة العالم قولا يشتمل، فيما نظن، على كليات المعاني التي انتهى إليها إدراك الباحثين عن حقائق العلوم التعليمية؛ ومعتمدون بالقصد اختصاص العلوم التي بينها بنهاية الاستقصاء بطلميوس الفاضل في كتابه في التعاليم؛ لكن نفرض للحركات الدوائر والنقط المتوهمة التي أخذها مجردة في سطوح الأكر المتحركة بذواتها تلك الحركات؛ إذ كان ذلك أصدق من صفة وأظهر أيضا عند الأفهام. وكان غرضنا نقل ما فهمناه من هذه العلوم إلى أفهام من يريد الوصول من غير بحث إلى إدراكها؛ وكان هو قاصدا فيما استعمله [من] البراهين، ومستعينا فيها بتلك الدوائر والنقط فقط.
ولما كان قولنا بحسب ما بينه ورتبه، وكان معرضا عن استعمال شيء من الأجسام، نظرنا لكل واحدة من الحركات التي ذكرنا في الوجه الذي يحتمل أن تظهر تلك الحركات عن تحرك جسم حركة بسيطة متصلة دائمة. ويمكن مع ذلك اجتماع جميع تلك الأجسام المفروضة لكل واحدة من الحركات معا، من غير أن يعرض هناك تمانع ولا تدافع ولا تعويق؛ بل تكون حركاتها مع اجتماعها بسيطة، دائمة، متصلة. فنفرض لكل حركة نذكرها جسما كريا متحركا حول مركزه حركة متصلة ليكون ذلك أشبه بالأمر الدائم، البعيد عن التغير، السليم من الآفات. ثم نلخص القول في جميع ما هو موجود للأجرام السماوية وما يعرض لها من النقل واختلاف الأوضاع.
وقولنا في تلك الحركات، إنما هو بحسب رأي بطلميوس فيها واعتقاده وجميع ما نورده إنما هو جمل تفهم منها صور كلية الشكل والوضع والحركة، لا جزئيات هذه؛ بل يحتمل، متى قرئت جزئياتها أن تكون مطابقة لها. واجتهادنا في ذلك بقدر الطاقة وبقدر الإمكان؛ ولله العليم.
هذا هو صدر المقالة في هيئة العالم. وبما أننا قد وقفنا سابقا على نقائص اعترت المخطوطين الذين اعتمد عليهما الباحث إسحق صفي لنغرمان للمقالة، كما وقفنا على عيوب شابت نشرته[16]، فإننا لا بد من ذكر المخطوطات التي اعتمدنا عليها نحن في إعادة تحقيقنا لهذه المقالة ونعتمد عليها في مراجعتنا للعمل الذي ننجزه ونعده للنشر؛ كل هذا سعيا وراء اثبات أن ما ننجزه يمكن أن يضيف شيئا إلى عمل لنغرمان، حتى لا نقول، إننا نسعى إلى تجاوزه.
لابد من الإقرار بكون عمل التحقيق هو عمل علمي يقوم على محاولات إخراج نص كتبه شخص بخط يده ثم استنسخه آخرون بعده؛ وإذ من الصعب الحصول على المخطوط الأصلي، فإن عمل التحقيق غالبا ما يتم اعتمادا على النسخ التي أُستنسختْ انطلاقا من النص الأصلي، وهذا أمر يهم النصوص التراثية القديمة بالأساس. وعليه فلا مناص لهذا الإخراج من أن يروم مسألة تتعلق بالحصول، ما أمكن ذلك، على النص كما كان يريد صاحبه أن يكون؛ وكلما تم الاعتماد على أكثر من نسخة واحدة، إلا وتم الاقتراب من هذا المرام. لهذا الاعتبار نقول إن عَمَلنا بصدد إعادة تحقيق المقالة في هيئة العالم، لهو عمل نريده أن يندرج ضمن هذا السعي، أي الاقتراب من هذا المرام.
وهكذا، فبالإضافة إلى النسخة التي اعتمدها لنغرمان وهي نسخة (إنديا أوفس) نعتمد نحن على أربع نسخ أخرى، رغم أنه لا يوجد اختلاف كبير بين هذه النسخ، كما سبق القول. والنسخ المعتمدة من لدننا هي: النسخة الموجودة بخزانة سلا، مكتبة الصبيحية تحت رقم 279، وعدد أوراقها 29 ورقة (سبعة وخمسون صفحة) وهي النسخة التي تتضمن أشكالا هندسية توضيحية، كما أنه توجد بين أيدينا نسخة شبيهة، بل قل، هناك تطابق شبه كامل بينها وبين النسخة الموجودة بخزانة سلا، ما عدا بعض التفاصيل المتعلقة ببعض المفردات، إضافة إلى اختلاف يهم شكلا هندسيا واحدا، ويتعلق الأمر هنا بنسخة موجودة في ملكية الأستاذ البعزاتي، وقد أمدنا بها مشكورا في إطار إشرافه على إنجاز عملنا لنيل شهادة الدكتوراه. والراجح أن هذه النسخة قد تم استنساخها من نسخة خزانة سلا، وتتضمن خمسين صفحة. كما بين أيدينا نسخة الخزانة الحسنية بالرباط، تحت رقم8691، وهي النسخة التي تحدث عنها لنغرمان في تصدير تحقيقه أو نشرته، وذكر أنه لم يتمكن من الحصول عليها؛ وهذه النسخة، هي بالمناسبة صعبة القراءة؛ فباستثناء الأوراق الثلاثة الأولى، نجد أن صفحاتها وأوراقها غير خاضعة لأي ترتيب أو تنظيم؛ كما أن فقرات الفصول فيها غير مرتبة، الشيء الذي يجعل من قراءتها أمرا صعبا؛[17] ورغم هذا فقد تمكنا من مقابلتها بنسخة أخرى موجودة بنفس الخزانة تحت رقم 13874؛ والظاهر أن هذه الأخيرة تقدم نفسها كإصلاح للنسخة السيئة الترتيب السالفة الذكر. وهذه النسخة التي تصلح ما فسد في النسخة المتحدث عنها، تتضمن، ضمن مجموعة مخطوطات، تسعة وعشرين ورقة من الحجم الطويل؛ وتبدأ هذه الورقات ضمن مجموع المخطوطات من 68 إلى 97. وهكذا يكون مجموع النسخ المخطوطة التي نعتمد عليها هو خمسة نسخ، بالإضافة إلى نشرة لنغرمان.
هكذا، يبقى أمر الوصول إلى تحقيق يكون أقرب إلى ما أراده مؤلف هذه المقالة متروكا لما سيسفر عنه البحث والتنقيب في حقيقة هذه المقالة المثيرة للجدل؛ نقصد البحث للحصول على مخطوطات أخرى للمقالة، والبحث كذلك في تطور النظر الفلكي خلال الحقبة التي عاش فيها صاحبنا ابن الهيثم.
- المقالة بعد تلقيها من طرف الدارسين والباحثين المعاصرين
للخوض في هذا الأمر، الذي نهدف من خلاله إلى الوقوف عند المشكل الرئيس الذي نبحثه هنا، ألا وهو محاولة الفحص حول صحة نسبة هذه المقالة إلى الحسن بن الهيثم، نرى أنه لا بد من قول شيء ما بخصوص كيفية تعرفنا كباحثين ودارسين على وجود هذه المقالة.
قبل بروز العصر الحديث وقبل أن تقع مخطوطات هذه المقالة بين أيدي الدارسين والباحثين في تاريخ الأفكار العلمية، كان هناك تقليد معروف خصوصا عند العرب والمسلمين، ويتعلق بكتابة السيرة العلمية للشخصيات العلمية البارزة، وهو التقليد الذي أثمر ما يسمى بكتب الطبقات، ولأن ابن الهيثم شخصية علمية بارزة فنكاد لا نجد أي كتاب من هذه الكتب إلا وقد اهتم بشخصيته العلمية.[18] وضمن هذه الكتب يمكن الاستعانة بما ورد عند ابن أبي أصيبعة (ت. 668𞸤/1270م) في كتابه عيون الأنباء في طبقات الأطباء، والذي يمكن عده أنضج من الكتب التي ألفت قبله حسب بعض الدارسين (انظر : 𞸤17). وقد ذكر صاحب عيون الأنباء المقالة في هيئة العالم مرتين، مرة ضمن الفهرس المؤرخ بسنة 417 هجرية، وهو فهرس خاص بما صنعه ابن الهيثم في العلوم الرياضية[19] ومرة ضمن الفهرس المؤرخ ب 429 هجرية، وذلك ضمن الكتب التي وجدها لابن الهيثم. يقول ابن أبي أصيبعة: ”وهذا أيضا فهرست وجدته لكتب ابن الهيثم إلى آخر سنة تسع وعشرين وأربعمائة: مقالة في هيئة العالم […] مقالة في كيفية الأرصاد، مقالة في الكواكب الحادثة في الجو، مقالة في ضوء القمر، مقالة في سمت القبلة بالحساب [….] مقالة في حل شكوك حركة الالتفاف، مقالة في الشكوك على بطلميوس.“[20] وهكذا يبدو أنه حسب الترتيب الذي وردت فيه المقالة في هيئة العالم، أنها تأتي قبل مقالات هامة وكثيرة لابن الهيثم، منها المقالة في الشكوك على بطلميوس التي لا يشك أحد من الدارسين في صحة نسبتها إلى هذا العالم.[21]
هذا من حيث اعتناء كتب الطبقات بهذه المقالة قيد البحث. والجدير بالذكر في هذا السياق أيضا، أن المقالة قد أُعتني بها على مستوى الترجمة؛ إذ يذكر بيير دوهيم أن هذه المقالة عرفت ترجمة إلى اللغة اللاتينية من طرف شخص مجهول حسب رواية الإيطالي أبراهام البالمي (1440-1523Abraham de Balmès ) وذلك بطلب من الملك ألفونسو العاشر (1221-1284 Alphonse X). وفي نهاية القرن الثالث عشر ظهرت الترجمة العبرية للنص العربي أنجزها يعقوب بن ماكر (1236-1304 Jacob ben Makir) وبناء على هذه الترجمة أنجز أبراهام البالمي السالف الذكر ترجمة أخرى للمقالة إلى اللغة اللاتينية وأهداها للكاردينال غريمانيني (1489-1546 Grimanini) كما أنجزت ترجمة أخرى للمقالة إلى اللغة العبرية من طرف سليمان بن باتر الكوهنSolomon ben Pater Kohen وأهداها ليعقوب بن مير (1100-1171 Jacob ben Meir) وفي القرن التاسع عشر نشر الألماني شتينشنيدر (1889-1933Steinschneider) بعض المقاطع من المقالة.[22]
هذا ما حظيت به المقالة في هيئة العالم من الاهتمام قبل أن يهتم بها الدارسون والباحثون المعاصرون في تاريخ الأفكار العلمية. وهنا تلزم الإشارة إلى أن هذا الاهتمام يتفاوت بين ما قبل وما بعد تحقيق لنغرمان للمقالة، وهي النقطة التي سيجدر بنا الوقوف عندها، لأنها هي التي تمثل أصل المشكلة المثارة بصدد صحة نسبة هذه المقالة إلى العالم الحسن بن الهيثم. و في اعتقادنا أن هذا يبين مدى التأثير الذي يمارسه عمل التحقيق على الباحثين والدارسين؛ مما يعني أن هذا العمل العلمي يمنح حياة أخرى لكل نص مخطوط، حياة تجعل تداوله يثير شغف الباحثين والدارسين، وقد يثير شغبهم أيضا؛ وهو أمر محمود في كل الأحوال.
هكذا، نرى أنه قبل أن تُحقق هذه المقالة، لم يُثر بشأنها النقاش الذي سنتحدث عنه لاحقا، هذا بالرغم من أنها ورد ذكرها عند الكثير من الدارسين كما ألمحنا سابقا.[23] فقد مر بنا أن مؤرخ العلوم الفرنسي بيير دوهيم قد تحدث عن المقالة، أو تلخيص الفلك Le résumé d’astronomie ، حسب تعبيره وأصدر حكما بشأنها، وقد افترضنا أن هذا الحكم يمثل أحد البواعث التي حدت بالباحث إسحق صفي لنغرمان إلى الاهتمام بهذه المقالة على مستوى تحقيقها ونشرها. ومنذ أن ظهرت هذه النشرة اتخذ الحديث حول هذه المقالة وضعا إشكاليا. كيف ذلك؟ هذا ما سوف نهتم به فيما سيأتي من القول.
يشكك الدارس والباحث في تاريخ العلوم رشدي راشد في صحة نسبة المقالة في هيئة العالم إلى العالِم الحسن بن الهيثم؛ وقد استند في شكه هذا إلى أمور عدة، منها ما يتعلق بالبحث في حقيقة الاسم؛ لكن، إذا تؤملت حججه، وُجد أن حجرها الأساس هو ما يدعيه بخصوص البحث في مسألة ما إذا كان هناك شخص آخر بنفس الاسم تقريبا غير اسم العالم الرياضي والذي انتقد الفلك البطلمي، أي الحسن بن الهيثم. ودعوى رشدي راشد بصدد هذه المسألة تقوم على أنه هناك شخصان، ويتعلق الأمر بمحمد بن الحسن بن الهيثم وهو فيلسوف عاش تقريبا في نفس الفترة التي عاش فيها العالم الرياضي الحسن بن الهيثم؛[24] إلا أن دارسين آخرين يرون عكس ما يراه رشدي راشد، ومنهم من يرى بأن حجج هذا الدارس بخصوص وجود اسم آخر هو محمد بن الحسن بن الهيثم، تبقى غير كافية، وبالتالي غير مقنعة.[25] وعليه، نرى، من جهتنا، أن البحث في هذه المشكلة يجب أن يستمر.
ويترتب على الشك في وجود ابن الهيثم آخر، وهو فيلسوف، ما يترتب عليه من مشاكل تتعلق بنسبة الكتب والمقالات إلى هذا الاسم أو إلى ذاك. وفي هذا السياق يبني رشدي راشد حكما يتعلق بعدم صحة نسبة المقالة في هيئة العالم إلى العالم الرياضي الحسن بن الهيثم؛ وعليه فالصحيح بالنسبة إليه هو أن هذه المقالة هي للفيلسوف محمد بن الحسن بن الهيثم. أما الحجج التي يعول عليها في إسناد حكمه هذا فهي سيدور الحديث حولها فيما سيأتي.
بصدد هذه الحجج، يمكن أن نذكر كون رشدي راشد يصدر في موقفه هذا بناء على مضمون هذه المقالة وعلى مقارنته بمضامين المقالات الأخرى؛ إذ استنادا إلى هذه المقارنة يذهب إلى أنه من المحال أن يكون العالم الرياضي الذي انتقد بطلميوس هو صاحب هذه المقالة. وفي هذا السياق يتساءل: هيئة العالم، أهو كتاب لابن الهيثم؟ وجوابا على هذا السؤال، دبج رشدي راشد بحثه في نسبة المقالة إلى صاحبنا مستشهدا بقولين للرجل. الأول اقتبسه من كتاب المقالة في هيئة العالم، والثاني من مقالة حول حركة الالتفاف. وقد صرح أن الغرض من هذه الديباجة هو أن يكشف عن التناقض بين ما يعلنه ابن الهيثم من أنه يتبع بطلميوس بشأن الحركات وبين ما يعلنه في المقالة حول حركة الالتفاف من وجوب الكشف عن تناقضات صاحب المجسطي.[26]
من هنا يكون البحث في صحة نسبة هذه المقالة إلى ابن الهيثم لا تمليه الرغبة في تسديد أو تقويم خطأ تاريخي، ولكنه يمليه، حسب رشدي راشد دائما، التزامنا بالتصور الذي لدينا حول فلك ابن الهيثم.[27] ويكمن هذا التصور في كون ابن الهيثم اشتغل وفق مقاربة استدلالية رياضية، وليس وفق مقاربة وصفية؛ والحال أن الوصف هو الذي يطغى على المقالة في هيئة العالم. كما أن اعتماد آلية الوصف جعل من محتوى المقالة محتوى بسيطا؛ وهذا هو السبب الذي جعل الباحثين يهتمون، حسب رشدي راشد، بهذه المقالة، أي أن بساطة المحتوى وغياب التقنية الرياضية[28] كانا وراء اهتمام الباحثين والدارسين بها.
تنضاف إلى حجة البساطة التي من خلالها يعترض رشدي راشد على صحة نسبة المقالة إلى العالِم الحسن بن الهيثم، حجة أخرى تتعلق بسنة تأليف الكتاب. وقد بنى حجته هذه استنادا إلى ما ورد عند ابن أبي أصيبعة؛ إذ أن هذا الأخير أورد بأن المقالة في هيئة العالم. قد كتبت فيما بين 1027- 1038م. وبين هذه السنوات كتب ابن الهيثم الشكوك على بطلميوس والشكوك حول حركة الالتفاف، وفيهما انتقد بطلميوس. بينما في المقالة في هيئة العالم نجد صاحبنا يعلن أنه يتبع خطى صاحب المجسطي. بهذا الصدد يعلن رشدي راشد أن العالم الرياضي، إذا وُضع في هذا الموقف، فإنه سيكون قد كتب خلال سنوات الشيء ونقيضه.[29]
وهكذا يخلص رشدي راشد إلى القول: ”وفي الواقع، فإذا كنا نثبت أن هذا الكتاب ليس، ولا يمكن أن يكون، ضمن قائمة كتب ابن الهيثم، فيجب من خلال هذا أن نخلص إلى أن التأويلات التي قدمت بشأن فلكه من طرف المؤرخين انطلاقا من هذا الكتاب هي تأويلات مردودة.“[30]
يدعونا رشدي راشد، إذن، إلى مراجعة كل ما صدر عن الدارسين بخصوص فلك ابن الهيثم، وذلك إن كان منطلقهم هي المقالة في هيئة العالم، لأنها مقالة بسيطة المحتوى، يغلب عليها طابع الوصف، وهي خالية من أي استدلال رياضي، ثم لا يمكن لعالم أن يقول شيئا ونقيضه، وبالتالي فالمقالة، حسب هذا الدارس، هي لفيلسوف يحمل اسم محمد بن الحسن بن الهيثم وليست للعالم الحسن بن الهيثم المعروف بشكه وانتقاده للفلك البطلمي.
وقبل أن نبدي بملاحظات تهم دعوى رشدي راشد هذه، لا بد من الإقرار بأن الشكوك التي يثيرها تظل مشروعة، لكن الحجج التي تسند هذه الشكوك تبقى غير مقنعة، وبيان ذلك أنها حجج تقوم على بعض الاعتبارات لم يعد يُعتد بها في دراسة تاريخ الأفكار العلمية، منها مثلا وضع حدود فاصلة بين العلم والفلسفة؛ إذ عندما يقر رشدي راشد بكون المقالة في هيئة العالم هي لفيلسوف وليست لعالِم معروف بعلمه الرياضي وبشكوكه وانتقاداته لبطلميوس، فإن هذا الإقرار مرده أساسا إلى فهم معين للفاعلية العلمية، كونها تجري في انفصال عن الفاعلية الفلسفية[31]؛ لكن طالما لم يتم التحقق بعد من وجود اسمين وهما الحسن بن الهيثم ومحمد بن الحسن، فما المانع من أن يكون الحسن ابن الهيثم قد كتب مقالة بسيطة يغلب عليها طابع الوصف واتبع فيها أقوال سابقيه، ثم بعد ذلك انقلب عليهم وانتقدهم. ثم هل يجوز أن ننفي عن ابن الهيثم صفة الفيلسوف؟ هل، حقا، أدار ظهره للفلسفة كلية؛ أو بتعبير آخر، هل لم يعتمد في كتبه أو مقالاته الأخرى، والتي لا يشك رشدي راشد في نسبتها إليه، على أقوال الفلاسفة؟[32]
إنها أسئلة تفرض نفسها أمام ما يدعيه رشدي راشد. وعليه، يكون الأنسب والأقرب إلى الصواب هو وضع فرضيات تهم هذه المقالة، مع التسليم، طالما لم تظهر معطيات تاريخية تحسم في الأمر، بأنها لابن الهيثم. وبصدد هذه النقطة، هناك من الدارسين من افترض هذه الفرضيات؛ وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى ما انتبه إليه كل من لنغرمان وبناصر البعزاتي بخصوص الهم التربوي أو الخلفية التربوية التي يُفترض أنها تحكمت في تأليف هذه المقالة، هذا وإن كان الأخير لم يخصص حيزا هاما للنظر في هذا الأمر، وإنما أورد ما أورده في سياق اهتمامه بالنظر العلمي لدى ابن الهيثم بصفة عامة، أما لنغرمان فقد أقر بالخلفية التربوية للمقالة قبل أن يأتي رشدي راشد بشكوكه حول نسبتها للعالِم الحسن ابن الهيثم، ولا ندري لماذا لا يضع في حسبانه هذا الافتراض؟[33]
وإن صح هذا فلا بد من الإقرار بكون النظر العلمي عند العلماء عموما يخضع للتطور؛ وتطور التفكير العلمي لأي عالم عبر مراحل هو سمة من سمات الفاعلية العلمية؛ وعليه فلا يمكن تصور النظر العلمي لابن الهيثم قد ثبت على حاله، أي أنه بدأ حياته العلمية ناقدا ومتشككا؛ بل يبقى افتراض أمر هذا التطور قائما. يقول البعزاتي: ”ويبرز التطور في تناول ابن الهيثم للمسائل الفلكية واضحا من خلال الاختلاف في النظر والتعقل بين كتاب في هيئة العالم وكتاب الشكوك على بطلميوس، وتفصل بين تاريخي تأليفهما رسائل ومقالات حول مسائل رصدية.“[34] ومن الضروري أن نذكر هنا أمرا يتعلق بكون التسهيل أو التبسيط، تبسيط علوم الأوائل كان يدخل ضمن التقليد الذي أرساه القدماء؛ فالكثير منهم اشتغل أساسا بأمر التبسيط والتسهيل.[35]
وعليه، فحجة البساطة، أي بساطة محتوى المقالة في هيئة العالم التي عول عليها رشدي راشد للتشكيك في نسبتها إلى ابن الهيثم العالِم الرياضي، نرى أنها حجة ليس فيها من الإقناع ما يكفي.
أما حجة سنة تأليف الكتاب، فهي أيضا فيها نظر، وبيان ذلك أن كتب الطبقات التي كثيرا ما نستعين بها في التأريخ للشخصيات العلمية، لا تُعَين سنة تأليف الكتب بشكل مضبوط؛ وعليه يكون من الصعب علينا التعويل على ما تذكره هذه الكتب للقول بأن هذا الكتاب قد ألفه صاحبه سنة كذا، وهذا الكتاب ألفه سنة كذا، وما ألفه في هذا الكتاب يتناقض مع ما ألفه في ذاك. وهذا أمر يحتاج إلى تحقيق، ولا يمكن الإتيان فيه بقول نهائي.
نعم، صحيح أن ما شغل ابن الهيثم في المقالة في هيئة العالم هو غير ما شغله في الشكوك على بطلميوس وفي الشكوك في حركة الالتفاف، إذ المعلوم عند الدارسين والباحثين أن صاحبنا وجه نقدا شديدا لبطلميوس في المقالتين الأخيرتين، بينما جاءت المقالة في هيئة العالم تكاد تخلو من أي نقد، خصوصا لبطلميوس، ذلك أن ما ذكره في صدر المقالة يبين، كما سبق أن أشرنا، أنه لم يكن راضيا على ما كتب قبله من طرف علماء آخرين سعوا إلى تأليف أقاويل في الهيئة بناء على فلك بطلميوس.[36]
ونرى أنه، قبل إصدار أي حكم نهائي— هذا إذا كان إصدار أحكام نهائية أمرا مستساغا في البحث العلمي— بناء على هذه المقارنة بين هذه المقالات المذكورة أعلاه، لا بد من الانتباه إلى الخلفية أو الغاية التي تحكمت في كتابة كل مقالة من هذه المقالات. وقد مر بنا أن الخلفية التي تحكمت في تأليف المقالة في هيئة العالم هي خلفية تربوية_ بيداغوجية. هكذا، نرى أن كل هذه الأمور لا يجب إهمالها في البحث، أي كل ما يتعلق بضرورة التساؤل حول الخلفية أو الغاية التي من أجلها كان يكتب القدماء مقالاتهم، وقد كانت هذه الغاية تختلف حسب السياقات. ومن هنا يجب الأخذ بعين الاعتبار كل ما يتعلق بالعبارة، أي استثمار عبارات فلسفية سواء في المقالة التي يشك رشدي راشد في نسبتها إلى ابن الهيثم أو في تلك التي يعتبرها من تأليف العالِم وليس الفيلسوف. كما يجب الأخذ بعين الاعتبار، أيضا، سياق تطور البحث العلمي في المجال الذي يجري فيه التأليف. وفي هذه النقطة، يمكن القول إنه من الصعب أن نجد عالما يُقْدم على التأليف بصدد مشكل ما بمعزل عن السياق الذي يجري فيه التأليف في هذا المشكل، وابن الهيثم يشير في صدر مقالته أنه لم يكن هو الأول الذي يقوم بوصف الكون بشكل يروم تبسيط الفلك والكسمولوجيا، وهذا يبين، حسب لنغرمان، أن ابن الهيثم انخرط في تقليد كان موجودا.[37]
خاتمة
كان غرضنا الأساس في هذا البحث يتمثل في الإحاطة ما أمكن بالنقاش الذي دار ولا يزال بين الباحثين والدارسين لتاريخ العلم أو الأفكار العلمية حول منجز علمي تربوي أنجزه عالم معروف بإسهامه النقدي في تطور الفاعلية العلمية خلال القرون الوسطى؛ إحاطة تهدف، أساسا، إلى تقوية فرضية كون المقالة في هيئة العالم هي مقالة من تأليف العالِم الحسن ابن الهيثم. وهي تمثل منجزا تعليميا، لا تتعدى غايته تسهيل الاقتراب من علم مسائله صعبة، وهو علم الهيئة . وهذا التسهيل كانت له أهميته في تطور البحث في هذا العلم، خصوصا في فترة تاريخية لم يكن فيها التعليم متداولا كما سيكون عليه الأمر في القرون الموالية. وعليه لا نرى أي حرج في القول إن عالمِا من العلماء المسلمين، وهو الحسن بن الهيثم، كتب في ذلك الوقت كتابا بسيطا تعليميا ثم أعقبه بكتابات علمية نقدية؛ فليس في هذا أي تناقض، ما دام النظر العلمي لأي عالِم يتطور عبر مراحل تعلمه وبحثه. لكن لا يجب أن يُفهم من قولنا هذا أننا نقلل من شأن ما يذهب إليه رشدي راشد بخصوص هذه المقالة. فشكوكه تبقى مشروعة ومطلوبة، بشرط أن لا تفضي إلى إصدار أحكام نهائية بناء على حجج غير كافية. وعليه فقد كان مسعانا هنا هو التنبيه أساسا إلى بعض الأمور قبل إصدار الأحكام بخصوص ما وصلنا من منجز القدماء في مجال العلم.
ولا شك أن المزيد من البحث والتنقيب في شخصية ابن الهيثم العلمية وفي السياق الذي تشكل فيه نظره العلمي عامة والفلكي خاصة، سيوفر فرصة لفتح آفاق أخرى لإنشاء قول يقربنا من حقيقة هذه المقالة ومقالات أخرى تنسب إليه.
Bibliography
Al-Qifti. Ikhbār al-ʿualamāʾ bi ʾakhbār al-ḥukamāʿ. Edited by Ibrāhīm Shams al-Ddīn. Beirut : Dār al-Kutub al-ʾilmiyyah, 2005.
Abarkan, Mohamed. al-Maqāla fī hayʾat al-ʿālam. uṭrūhat duktūrāh nūqishat bi Jāmiʿat Muhammad al-Khāmis, 2011.
Al-Buʿazzātī, Bannāṣar. “Muqawwimāt al-nnaẓar al-ʿilmī ladā Ibn al-Haytham.” Ẓimna Majallat kulliyyat al-ʾādāb wa-Al-ʿulūm al-Insāniyyah bi al-Rribāt, 11–59, n°27, 2007.
Bansāsī, Mohammad. “Fī naẓariyyat al-ʿilm ʿinda Ibn al-Haytham min khilāl al-rrisāla al-biblyūghrāfiyyah li Ibn abī ʾUṣaybiʿa,” ḍimna al-ʿAnāṣir al-ibdāliyyah wa al-tīmiyyah wa al-uslūbiyyah fī al-fikr al-ʿilmī. 89–124. Rabat : Manshūrat Kulliyyat al-ʾĀdāb wa al-ʿUlūm al-Insāniyyah bi al-Rribāṭ, 2004.
Duhem, p. Le système du monde, histoire des doctrines cosmologiques de Platon à Copirnic, Tom II, Paris : Librairie scientifique, A, Hermann et fils, 1914.
_________. Sauver les apparences, essai sur la notion de théorie physique de Platon à Galilée, Paris : Librairie philosophique, J- Vrin, 2003.
Fuʾād, Ahmad Bāshā. al-Hasan bnu al-Haytham wa maʾāthiruhu al-ʿilmiyyah. Kitāb al-Majalla al-ʿArabiyyah, 218.
Ibn al-Haytham, al-Ḥassan. al-Maqāla fī hayʾat al-ʿālam. India Offic’s manuscript. London : India Office Library : India Office, n°. 834.
__________. al-Maqāla fī hayʾat al-ʿālam. Nuskhat al-Khizāna al-Malakiyyah bi a-Rribāt . Rabat : Nuskhat al-Khizāna al- Malakiyaah, n°8691.
__________. al-Maqāla fī hayʾat al-ʿālam. Nuskha fī milkiyyat Bannāṣar al-Buʿazzātī.
__________. a-Shshukūk ʿalā Baṭlimyūs. Edited by Abdelḥamid Sabra wa Nabīl al-Shshihābī. Cairo : Maṭbaʿat Dār al-Kutub al-Masriyyah, 1996.
Ibnu Abī, ʾuṣaybiʿa. ʿUyūn al-ʾanbāʾ fī ṭabaqāt al-ʾaṭibbāʾ. Edited by Bāsil ʿuyūn a-Ssūd. Beirut : Dār al-Kutub al-ʿIlmiyyah, 1998.
Langerman, Y, Tzvi. Ibn al- Haytham’s on the configuration of the world, New York and London : Garland publishing, 1990.
Rashed, Roshdi. Les mathématiques infinitésimales du IX au XI. Volume 5. London : Al- Furqan Islamic Heritage Foundation, 2006.
__________. Les mathématiques infinitésimales du IX au XI siècle. Volume 2. London : Al-Furqan Islamic Heritage Foundation, 1993.
__________. Dirāsāt fī tārīkh al-ʿulūm wa falsafatuhā. 2ed, Beirut : Markaz Dirāsāt al-Waḥda al-ʿarabiyyah, 2011.
Sabra, A, I. “On Ibn Al- Haytham or two ?.” Zeitschrift Fur Geschichte der arabischen- islamischen wissenschaften, Band 12, 1998.
__________. “On Ibn Al- Haytham or two ?.” Conclusion. Zeitschrift Fur Geschichte der arabischen- islamischen wissenschaften, Band 15, 2002/03.
للتوثيق
أبركان، محمد. ”فلك ابن الهيثم: مقالة في الوضعية الراهنة للبحث.“ ضمن موقع الفلسفة والعلوم في السياقات الإسلامية، الرابط <https://philosmus.org/archives/3206>
محمد أبركان
[1] خضع هذا البحث للتحكيم السري، وهنا أجدني ملزما بتقديم الشكر للذي قام بهذه المهمة العلمية المفيدة؛ كما أشكر للزميل ذ. فؤاد بن أحمد ملاحظاته وعنايته بالمقال.
[2] يتعلق الأمر بنسخة موجودة بالخزانة الحسنية، وسوف نقف على المعطيات الخاصة بها لاحقا.
[3] نشير إلى أن هذه المقالة سبق أن تم تحقيقها من طرف الباحث اسحق صفي لنغرمان، وهو التحقيق الذي سنقف عنده في بحثنا هذا، كما نشير إلى أننا أعدنا تحقيق هذه المقالة، وذلك في إطار إنجاز أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه، والتي نعكف حاليا على مراجعتها لإعدادها للنشر. يمكن العودة إلى محمد أبركان، ”المقالة في هيئة العالم للحسن ابن الهيثم: دراسة وتحقيق،“ (أطروحة دكتوراه، نوقشت بجامعة محمد الخامس، 2011) كما تجب الإشارة إلى أن أغلب الدارسين لتاريخ علم الفلك العربي لا يشكون في نسبة هذه المقالة إلى العالم الحسن بن الهيثم؛ هذا، وإن كان عدم شكهم لم يُخصص له حيزا هاما، كتخصيص بحث أو دراسة؛ ونقصد هنا ما صدر عن عبد الحميد صبره الذي، وإن اهتم بإثارة مسألة هل هناك ابن الهيثم آخر غير العالِم المعروف لدينا، وهذا أمر سنهتم به لاحقا؛ وكذلك ما صدر عن بناصر البعزاتي وأحمد فؤاد باشا بالخصوص، وسنحيل إلى موضع ورود ما أدليا به من إشارات لاحقا.
[4] Y. Tzvi Langermann, Ibn al Haytham’s On the Configuration of the World (New York& London : Garland Publishing, 1990), ii–iii.
[5] Langermann ,Ibn al Haytham’s On the Configution. ii.
[6] نشر لنغرمان تحقيقه للمقالة في هيئة العالم للحسن بن الهيثم عن شركة غرلند (نيويورك ولندن: شركة غرلند، 1990).
[7] اهتم مؤرخ العلوم بيير دوهيم بالمقالة في هيئة العالم لابن الهيثم في مؤلفه الضخم حول نظام العالم، وبهذا الصدد يمكن الرجوع إلىPierre Duhem, Le système du monde, histoire des doctrines cosmologiques de Platon a Copirnic, Tom II (Paris : Librairie scientifique A. Hermann et Fils,1914), 119–129.
[8] كما اهتم بنفس المقالة في كتيبه Sauver les apparences, essai sur la notion de théorie physique de Platon à Galilée, introduction de Paul Brouzeng, 2édition (Paris : Librairie philosophique J. Vrin, 2003), 39–40–41.
[9] ويستمر في القول: ”وأنا متأكد كل تأكيد أن دوهيم أخطأ في تقديره، وفي صدر الجزء الأنجليزي قدمت دلائل على أن مقالة ابن الهيثم تختلف كثيرا عن كتاب الاقتصاص“ انظر: إسحق صفي لنغرمان، تصدير المحقق للمقالة في هيئة العالم، 2.
[10] يقول بصدد تحقيقه للمقالة: ”وأخيرا نصف طريقنا في تحقيق النص العربي للمقالة في هيئة العالم، حيث استخدمنا مخطوطين: أحدهما، وهو الوحيد الكامل محفوظ بالمكتب الهندي “أنديا أوفس في لندن برقم لوث 834 [هكذا أورد في النسخة العربية، فيما نجده في النسخة الإنجليزية يورد رقم 734، وهذا هو الصحيح، إذ نرجح أن الخطأ ناتج عن الرقن]، أوراق 116–101 ورمزنا إليه بحرف “ي” ؛ والثاني موجود في مكتبة كستمونو، تحت رقم2298 أوراق 43–1 وهو ينقص فصلين، “القول على فلك الشمس” و”القول على فلك القمر” كما ينقص جملا متعددة من فصل 3 ومن فصل 8 ورمزنا إليه بحرف “ك”“. انظر تصدير المحقق، 3. ونشير هنا إلى أن أحد الدارسين في تاريخ العلم العربي والإسلامي وهو عبد الحميد صبره، يورد الرقم 734 كرقم لمخطوط إنديا أوفس، انظر: A. I. Sabra, “One Ibn al-Haytham or Two ?” (Zeitschrift für Geschichte der arabischen- islamischen wissenschaften Band12, 1998), 1–51. هذا، وسيعمل، لاحقا، نفس الدارس بالعودة إلى نفس الموضوع، أي هل هناك ابن الهيثم آخر غير ابن الهيثم المعروف كعالِم، وذلك في إطار تفاعله مع الدارس الذي يشك في نسبة المقالة التي نتحدث عنها هنا، وهو الشك الذي يبنيه هذا الدارس، كما سنرى، بناء على وجود اسمين وقع الخلط بينهما. لمعرفة تفاصيل هذا التفاعل النقدي يمكن العودة إلى A. I. sabra, “One Ibn al-Haytham or Two ?”, Conclusion (Zeitschrift für Geschichte der arabischen- islamischen wissenschaften Band 15, 2002/03), 94–108.
[11] سوف يتم ذكر كل ما يتعلق بهذا المخطوط لاحقا، وذلك لأنه يمثل إحدى النسخ التي اشتغلنا عليها في إعادة تحقيقنا للمقالة في إطار إنجاز أطروحتنا لنيل شهادة الدكتوراه.
[12] في إعادة تحقيقنا للمقالة في هيئة العالم، اعتمدنا مخطوطا يتضمن أشكالا هندسية، وسوف نتكلم عن هذا المخطوط فيما سيأتي.
[13] ما على القارئ إلا أن يعود إلى النشرة المحال عليها في هذا البحث (نشرة لنغرمان) حتى يقف بنفسه على ما نذهب إليه هنا.
[14] سبق أن أشرنا في 𞸤 2 من هذا البحث، إلى أننا بصدد مراجعة إعادة تحقيقنا للمقالة، هذه الإعادة التي قمنا بها في إطار إنجازنا لأطروحة دكتوراه، وما دام الأمر هكذا، أي بالنظر إلى أننا نراجع عملنا هذا لإعداده للنشر، فإننا نكتفي هنا بذكر بعض المخطوطات المعتمدة في تحقيقنا، وذلك بفعل التشابه الموجود بين بعض المخطوطات، خصوصا الموجودة بالخزائن والمكتبات المغربية. فمثلا مخطوط خزانة سلا الصبيحية لا يختلف كثيرا عن النسختين الموجودتين بالخزانة الحسنية، وكذا عن النسخة التي هي في ملكية الأستاذ بناصر البعزاتي، ولذلك نكتفي هنا بالإحالة إلى البعض من هذه النسخ الأربعة. هذا، ويبقى الغرض، كما أشرنا أعلاه، هو أن يتعرف القارئ على قطعة هامة من المقالة التي نتحدث عنها في هذا البحث؛ قطعة تمثل صدر المقالة، حيث أفصح فيها ابن الهيثم عن الأمور التي حركته لكتابتها. وعليه، فيمكن أن نحيل هنا على نشرة محمد أبركان التي هي قيد المراجعة، 193–197، وعلى نشرة لنغرمان، 5–7، وكذا 1–2 من النسخة التي في ملكية بناصر البعزاتي (هكذا يصر مالك هذه النسخة أن يكون ترتيبها بالصفحات)، وكذا مخطوط (لندن: إنديا أوفس ر 734)، ورقة 101 ب (هكذا)، وكذا مخطوط (الرباط: الخزانة الملكية ر 8691)، ورقة 68 ظ/ و.
[15] سنعود إلى إثارة هذه المسألة لاحقا، أي سنقف على ما حرك ابن الهيثم إلى تأليف هذه المقالة، وذلك عندما سنناقش دعوى من يرفض أن تنسب هذه المقالة إلى العالم الحسن ابن الهيثم.
[16] وهذا يعني، بطبيعة الحال، أننا قد عملنا، قدر المستطاع، في إعادة تحقيقنا للمقالة على تجاوز هذه العيوب.
[17] لهذا السبب، سيجد القارئ، إن رجع إلى أطروحتنا المرقونة المحال عليها سابقا، أننا تغاضينا عن تعيين الأوراق الخاصة بهذه النسخة، وذلك لصعوبة هذا الأمر، إذ أنه تقرأ فقرة من فصل ما وتجد الفقرة الموالية في فصل آخر.
[18] نظرا لكثرة هذه الكتب، سوف نكتفي بما أورده ابن أبي أصيبعة في كتابه عيون الأنباء في طبقات الأطباء، وذلك نظرا لكونه كتابا جامعا لما أورده السابقون عليه، وبالتالي فهو حسب بعض الدارسين كتاب أنضج، والسبب هو أن ابن أبي أصيبعة جمع مادته وحصلها اعتمادا على كتابين أساسيين، وهما تتمة صوان الحكمة للبيهقي وإخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطي، انظر:ٌRoshdi Rashed, Les mathématiques infinitésimales du IX au XI siècle, volume 2 (London : Al-furqan Islamic Heritage Foundation, 1993), 8.
[19] ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ضبطه وصححه ووضع فهارسه، محمد باسل عيون السود، ط1(بيروت: دار الكتب العلمية، 1998)، 510.
[20] ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء، 514. هذا، وسوف نشير لاحقا إلى أن الاستناد إلى التواريخ التي يوردها أصحاب كتب الطبقات، يصعب التعويل عليها؛ فقد يكون، مثلا، ذكر المقالة في هيئة العالم مرتين نتيجة سهو من قبل صاحب الكتاب أو من قبل الناسخ.
[21] ونشير إلى أن القفطي (646𞸤/1248م) يذكر المقالة في هيئة العالم تحت عنوان هيئة العالم، وقد أوردها قبل مقالة الشكوك على بطلميوس. انظر: القفطي، إخبار العلماء بأخبار الحكماء، علق عليه ووضع حواشيه ابراهيم شمس الدين (بيروت: دار الكتب العلمية، 2005) 130. والجدير بالذكر، في هذا السياق، أن عبد الحميد صبره اهتم بعقد مقارنة بين صيغ ورود المقالة في هيئة العالم في ثلاثة مواضع؛ هكذا، فهي مذكورة عند القفطي بالعنوان الذي أوردناه أعلاه (هيئة العالم) ومذكورة عند ابن أبي أصيبعة بالمقالة في هيئة العالم، وفي مخطوط لاهور الذي رمز له صبره ب FL ذكر تحت عنوان المقالة في هيئة العالم؛ وطبعا فالمقالة منسوبة في هذه المواضع كلها إلى الحسن ابن الهيثم، ما عدا عند ابن أبي أصيبعة الذي أورد محمد بن الحسن. انظر: “One Ibn al-Haytham or Two ?” , 41
[22] كل هذه المعلومات، استقيناها من كتاب بيير دوهيم، نظام العالم المحال عليه سابقا، انظر: 121. كما نشير هنا أنه بعد اهتمام بيير دوهيم بهذه المقالة في كتابه المذكور، ظهرت ترجمة ألمانية للمقالة عن العربية سنة 1923، كما نشر الأستاذ ملياس فاليكروزا نصها اللاتيني سنة 1942، هذا ما ذكره عبد الحميد صبره في مقدمة تحقيقه للشكوك على بطلميوس، انظر بهذا الصدد: مقدمة الشكوك على بطلميوس، تحقيق ع الحميد صبره ونبيل الشهابي (القاهرة: مطبعة دار الكتب المصرية، 1996)، (ص) (هكذا جاءت صفحات مقدمة هذا التحقيق).
[23] ونضيف إلى أن صبره ذكرها أيضا في مقدمة تحقيقه للشكوك على بطلميوس الذي أنجز بمعية نبيل الشهابي سنة 1971. نقرأ في هذه المقدمة: ”وابن الهيثم نفسه قد وضع مقالة في هيئة العالم، حاول فيها أن يتمم محاولة بطلميوس في الاقتصاص مع تلافي ما في هذا الكتاب من صعوبات،“ (ص).
[24] يرى رشدي راشد أنه من الخطأ الخلط بين الاسمين، لأن هذا الخلط لا يبرره دليل تاريخي واحد، وهو، أي الخطأ، نتيجة لخلط ابن أبي أصيبعة بين الاسمين. انظر : رشدي، راشد، دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها، ط1 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2011)، 229. وفي هذا السياق، أثار رشدي راشد عدة أمور منها أن ناسخ مخطوط المقالة في هيئة العالم يقول: ”إن الأصل الذي عنه نقل هو للسميساطي الذي نقله على مخطوط للحسن بن الهيثم سنة 1083م/476𞸤. وأبو القسم السميساطي هو معروف لنا بما كتبه في الرياضيات“ ومباشرة بعد هذا القول، يخبرنا رشدي راشد أن السميساطي توفي، بإجماع المؤرخين، سنة 1061م/453𞸤؛ انظر: دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها، 227. لكن كل ما يورده هنا رشدي راشد، يورده استنادا إلى ما ذكره ناسخ مخطوط كستمونو، في حين أن المقالة في هيئة العالم موجودة في مخطوطات أخرى، وهذه المخطوطات التي نتوفر عليها، كلها تنسب المقالة للحسن بن الهيثم وليس لمحمد بن الحسن. هكذا نجد المخطوطات الموجودة في المكتبات والخزانات المغربية تبدأ، بعد البسملة، ب ”قال الشيخ أبو علي الحسن بن الهيثم“ بالنسبة للمخطوطين الموجودين بالخزانة الملكية؛ أما بالنسبة لمخطوط أنديا أوفس، فنجد، بعد البسملة دائما، ”قول للحسن بن الحسن بن الهيثم.“ وقد أشار عبد الحميد صبره إلى هذا الأمر فيما يخص مخطوطي كستمونو وإنديا أوفس، أي أنهما لا ينسبان المقالة إلى شخص اسمه محمد بن الحسن بن الهيثم، بل إلى الحسن ابن الحسن ابن الهيثم. انظر: “One Ibn al-Haytham or two,” 19
[25] من الدارسين الذين يرون عكس ما يراه رشدي راشد نجد عبد الحميد صبره في بحثه “One Ibn al-Haytham or Two ?” المحال عليه سابقا. وفي الجزء الثاني من هذا البحث، يؤكد صبره، أيضا، على أن الأمر يتعلق باسم واحد. والجدير بالذكر أن البحث، في جزئيه، مكرس كله لهذه المشكلة، انظر: 5، 𞸤 9 من بحثنا هذا. ومن الدارسين الذين يرون بأن حجج رشدي راشد غير مقنعة وغير كافية، نجد بناصر البعزاتي، انظر: “مقومات النظر العلمي عند ابن الهيثم” مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، العدد السابع والعشرون، 2007، 13، 𞸤 2. وانظر كذلك ما ذهب إليه أحمد فؤاد، باشا في كتابه، الحسن بن الهيثم ومآثره العلمية (كتاب المجلة العربية، 218)، 69. هذا، كما أن محمد بن ساسي ذهب إلى القول إنه غير مستعد للانخراط في هذا النقاش، ويسلم بأن ابن الهيثم هو عالم وفيلسوف في نفس الآن. انظر: محمد بن ساسي ”في نظرية العلم عند ابن الهيثم، من خلال الرسالة الببليوغرافية لابن أبي أصيبعة،“ ضمن العناصر الإبدالية والتيمية والأسلوبية في الفكر العلمي (الرباط: منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة ندوات ومحاضرات رقم 116، 2004) 92، 𞸤 8.
[26] Les mathématiques infinitésimales, vol. 5, Appendice1, 881.
[27] Les mathématiques infinitésimales, 883.
[28] قد تفيد الإشارة، هنا، إلى أن كل ما يقوله رشدي راشد بخصوص هذه المقالة، يقوله استنادا إلى تحقيق لنغرمان؛ وقد سبق أن أشرنا إلى أن هذا الأخير اعتمد في تحقيقه على مخطوطين ناقصين، خاليين من الأشكال الهندسية، في حين نتوفر نحن على نسختين تتضمنان أشكالا هندسية؛ وإيراد صاحب المقالة لأشكال هندسية يبين أنه كان على وعي بأهمية الرياضيات الهندسية في تعليم الفلك وتوضيح مسائله.
[29] Les mathématiques infinitésimales, 892.
[30] Les mathématiques infinitésimales, 883.
[31] يصر محمد بن ساسي على أنه لا يمكن الفصل في شخصية ابن الهيثم بين العالِم والفيلسوف، وذلك في كتابه الذي أراد له كنعوان: ابن الهيثم، العالم الفيلسوف (تونس: منشورات نيرفانا، دار بوجميل للطباعة والنشر، 2016). ولنا عودة إلى هذا الكتاب في قراءة نقدية في القادم من الأيام.
[32] نقرأ له في الشكوك على بطلميوس، وذلك في سياق رفضه أن يكون جسم واحد يتحرك حركتين متضادتين طبيعيتين دائمتين: ”وهذا محال فاحش، أعني أن يكون لجسم واحد حركتان متضادتان طبيعيتان دائمتان. فإن قيل إنهما اختياريتان لزم أن يكون جزء من السماء يختار اختيارين متضادين، فجوهره مركب من جوهرين متضادين، أو من جواهر متضادة، وهذا محال عند جميع الفلاسفة،“ 19. هذا ونحن نعلم أن فكرة كون الحركة السماوية أو حركة جسم السماء لا ضد لها، هي فكرة دافع عنها أرسطو في كسملوجيته التي تسندها الميتافيزيقا.
[33] يقول البعزاتي: ”وكأن هذا الكتاب تربوي، ألفه للاستئناس بمكونات النظر العلمي من أجل تداول الأفكار العلمية الفلكية”، انظر: “مقومات النظر العلمي،“ 20. كما نقرأ عند لنغرمان في تصدير نشرته المحال عليها سابقا: ”إن المقالة في هيئة العالم ما هي إلا كتاب أساسي أوضح فيه ابن الهيثم جل الموضوعات المشتملة على علم الهيئة، فيما عدا الرياضيات، لأنه خصص هذه المقالة للمتعلمين الذين لا يحذقون في الرياضيات،“ انظر: تصدير التحقيق، ص 2.
[34] البعزاتي، ”مقومات النظر العلمي.“ ويستمر مبرزا أن ”الكتاب الأول (الهيئة) مثلا يندرج في هذه الاتصالية الممتدة من بطلميوس إلى ثابت بن قرة والبتاني والفرغاني، ولا تعني الاتصالية أخذا بمعاني السابقين حرفيا، إنما تعني أن لا تحول هام في المعارف والمسلمات قد حصل في هذه الفترة الطويلة“ 20. هذا، كما نجد صبره، أيضا، قد سبق أن أشار إلى هذا الأمر متسائلا: ”لماذا نستكثر على المؤلف قدرته على التغير والتطور؟“ انظر: Sabra, “One Ibn al-Haytham or Two ?” Band 15, 102.
[35] على سبيل المثال لا الحصر يمكن أن نذكر تسهيل المجسطي لثابت بن قرة.
[36] بل قد ذهب لنغرمان إلى أن ابن الهيثم قد وجه نقدا إلى ما كتب من طرف البتاني والفرغاني، وأنه أثناء تأليفه للمقالة في هيئة العالم، كان ما ألفه هذان العالمان، بخصوص علم الهيئة، في ذهنه. انظر: Y.Tzvi Langermann, Ibn al-Haytham’s On the configuration of the world, 28.
[37] نشير هنا إلى علماء آخرين قبل ابن الهيثم، كانوا قد كتبوا في هذا الأمر كثابت بن قرة (ت. 228𞸤/901م) في تسهيل المجسطي وكالفرغاني (ت. حوالي 247𞸤/861م) في جوامع علم النجوم وأصول الحركات السماوية، وهذه النقطة نجد اسحق صفي لنغرمان قد أثارها في مدخل هيئة العالم لابن الهيثم. انظر:
Langermann, Ibn al Haytham’s on the Configuration, 25.
مقالات ذات صلة
في مشروعية الكلام السني ضدا على إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي (ت.505هـ/1111م): قطعة من موسوعة الأسرار والعبر لأبي بكر الطرطوشي (ت.520هـ/1126م)، تعريفٌ وتوصيف
On the Legitimacy of Sunni Theology against Abū Ḥāmid al-Ghazālī’s Iḥyāʾ ʿUlūm al-Dīn (d. 505/1111): A Section from Abū Bakr al-Ṭurṭūshī’s al-Asrār wa-l-ʿIbar (d. 520/1126) - Introduction and Description Fī Mashrūʿiyyat al-Kalām al-Sunnī Ḍiddan ʿalā Iḥyāʾ ʿUlūm al-Dīn...
منهج الغزالي في التأليف في علم المنطق
Al-Ghazālī’s Methodology in His Writings on Logic Manhaj al-Ghazālī fī al-Taʾlīf fī ʿIlm al-Manṭiq منهج الغزالي في التأليف في علم المنطق محمد رويMohamed Roui جامعة عبد الملك السعديUniversité Abdelmalek Essaadi ملخص: تتناول هذه الدراسة معالم منهج أبي حامد الغزالي...
المنطق في الحضارة الإسلاميّة
المنطق في الحضارة الإسلاميّة خالد الرويهبKhaled El-Rouayheb جامعة هارفارد-كمبريدجHarvard University-Cambridge ملخص: ”المنطق في الحضارة الإسلامية“ لخالد الرويهب (جامعة هارفارد بكمبريدج) هي في الأصل محاضرة بالعربية ألقيت في مؤسسة البحث في الفلسفة العلوم في...
مكانة ”الالتباس“ في الثقافة العربية الإسلامية في عصرها الكلاسيكي: بواكير منظور جديد
Navigating Ambiguity: Exploring the Role of Uncertainty in the Classical Arab-Islamic Culture Makānat Al-Iltibās fī al-Thaqāfah al- ʿArabiyya al-Islāmiya Fī ʿAṣrihā al-Klāsīkī:Bawākīr Manẓūr Jadīd مكانة ”الالتباس“ في الثقافة العربية الإسلامية في عصرها الكلاسيكي بواكير...
أثر فلسفة ابن رشد في الكلام الأشعري المغربي: دراسة في المنجز حول فكر أبي الحجاج يوسف المكلاتي (ت.626هـ/1229م)
The Impact of Ibn Rushd's (Averroes’) Philosophy on Maghribi Ashʿarī KalāmCurrent State of Studies on al-Miklātī (d.626/1229) Athar Falsafat Ibn Rushd fī al-Kalām al-Ashʿarī al-Maghribī: Dirāsa fī al-Munajaz ḥawl Fikr Abī al-Hajjāj Yusuf al-Miklatī (626/1229) Majda...
في مقاربة فلسفة الفعل عند الفخر الرازي: مراجعة نقدية لمقالة ”فلسفة الفعل ونظرية العادة التاريخية عند المتكلمين“
On the Approach to the Philosophy of Action in Fakhr al-Dīn al-Rāzī:A Critical Review of “Falsafat al-fiʿl wa-naẓarīyyat al-ʿādah al-tārīkhīyyah ʿinda al-mutakallimīn” Fī muqārabah Falsafat al-fiʿl ʿinda Fakhr al-Dīn al-Rāzī:Murājaʿat naqdīyyah li-maqālat “Falsafat...
أبو البركات البغدادي ومشكل الزمان
Abū al-Barakāt al-Baghdādī on The Problem of Time Abū al-Barakāt al-Baghdādī wa Mushkil al-Zamān Jalel DridiUniversity of Tunis, Tunis أبو البركات البغدادي ومشكل الزمان جلال الدريديجامعة تونس، تونس Abstract׃ The approach adopted by Abū al-Barakāt al-Baghdādī...
صورة العقل عند الشكّاك بين القديم والوسيط
Ṣūrat al-ʿaql ʿinda al-shukkāk bayna al-qadīm wa-al-wasīṭ Reason in the Ancient Skeptics and its Impacts during the Medieval Era صورة العقل عند الشكّاك بين القديم والوسيط سعاد جوينيجامعة تونس، تونس Souad JouiniUniversité de Tunis, Tunis Abstract: The creativity...
مشروعية النظر العقلي في تقرير العقائد عند المتكلمين: فخر الدين الرازي نموذجًا
Machrūʿiyat al-naẓar al-ʿaqlī fī taqrīri al-ʿaqāʾid ʿinda al-mūtakalimīn:fakhr al-Dīne al-Rāzī namūdhajan The legitimacy of Speculated Reasoning from the Perspective of Fakhr al-Dīne al-Rāzī مشروعية النظر العقلي في تقرير العقائد عند المتكلّمين: فخر الدين الرازي...
”ما هي الأعمال الفلسفية اليونانية القديمة […] التي ندين للعرب في أول معرفتنا بها؟“: عودة إلى نقاش ”قديم“
“Which of the works of the ancient Greek philosophers [...] do we owe the first knowledge to the Arabs?” Revisiting an “old” Dispute “Mā hiya al-Aʿmāl al-Falsafīyah al-Yūnānīyah al-Qadīmah [... ] allatī Nadīn lil-ʿArab fī Awwal Maʿrifitinā bihā? ” ʿAwdah ilá Niqqāsh...
أستنتج من هذا المقال أن رشدي راشد لا يقبل بالتناقضات بين ما ورد بـ ”المقالة في هيئة العالم“ وما ورد من مقولات هندسية وفلسفية بالكتب الأخرى التي تنسب للحسن بن الهيم. ويقر الدكتور محمد أبركان في هذا المقال بوجود هاته التناقضات. أما عبد الحميد صبره وصفي لنچرمان فإنهما لم ينبها القراء عليها قبل تدخل رشدي راشد في الموضوع.
لحل المعضلة ينطلق رشدي راشد من وجود شخصين مختلفين من بني الهيثم : محمد والحسن ؛ أولهما فيلسوف لم يكن قد تجاوز طفولة علم الفلك الوصفي كما كان متداولا أيام أفلاطون وأرسطو، بينما الحسن مهندس محنك كان مطلعا على تفاصيل ما طوره المهندسون الإغريق ثم العرب من نماذج هندسية ومن جداول ترافقها.
ويعتبر محمد أبركان أن الحسن بن الهيثم هو نفس العالم الذي اعتمد بالكامل على فرضيات بطلميوس الواردة بكتاب المجسطي لما كتب ”المقالة في هيئة العالم“ قبل أن ينشأ كتبا تتطرق لكل ما يشوبها من خلل وأغلاط فيكتب شكوكه المشهورة على بطلميوس. ويدع محمد أبركان المجال مفتوحا لنتصور أن ”المقالة“ مجرد تبسيط لمقولات علم الفلك البطلمي بينما الشكوك عمل هندسي رصين يتخطى ما يقتضيه التبسيط الذي يروم الوصف مع تجنب التفاصيل الهندسية.
فما الذي تقتضيه هاتان النظريتان التي عبر عنهما محمد أبركان ؟
تقتضي أولا أن ابن الهيثم درس المجسطي دون أن ينتبه إلى ما أورده بطلميوس نفسه بهذا الكتاب من تشكيك في مقولات سابقيه من الفلاسفة خاصة منهم أفلاطون وأرسطو. لقد صرح بطلميوس أنه لجأ إلى إبداع هيئة معدل المسير ليتجاوز بها منطلقات المعلمان الأولان. لقد تخلى بطلميوس في نهاية المطاف عن التشبث بتصورات تعتمد على أفلاك (أي على أكر صلدة) لا يمكن اختراقها دون إتلافها.
أضف إلى هذا أن كل علماء الفلك الإغريق والعرب السابقين لابن الهيثم كانوا قد وقفوا على التناقضات المتواجدة بكتب بطلميوس. فهل يليق بابن الهيثم أن يكون مطلعا على المجسطي ونقده الذاتي المتواجد بجوفه إضافة لما ألفه سابقوه بالعربية من انتقادات فيقوم لإصلاحه في ”المقالة في هيئة العالم“ ويوهم القراء، على خلاف ما قال به بطلميوس، أنه بالإمكان تصور أفلاك متعددة المراكز لا تقاطع ولا تعيق بعضها البعض في دورانها الأزلي ؟
لدي نظرية أخرى : يراوغ علماءنا ومفكرونا الحاليون أنفسهم كي لا ينبهوا قراء العربية أن المهندسين الإغريق سبقوا إلى القول بدوران الأرض حول نفسها وحول الشمس قبل أن يعيد كبرنيك إحياء هاته النظرية. فكل أهل القرون الوسطى من البيزنطيين الإغريق ومن العرب ومن اللاتنيين تشبثوا بفيزياء أرسطو الخاوية التي لم تنتج للبشرية أي شيء ذي فائدة بينما نعلم اليوم أن المهندس أرخميدس كان قد قام بتفنيدها وإنشاء فيزياء وميكانيكا عقلانية وتجريبية مكانها. لم يفهم أهل القرون الوسطى هاته الفيزياء الرابحة إلى أن أعاد كاليليو إحياءها فيدفن الأوروبيون فيزياء أرسطو دفنا نهائيا. وكأنما لا يعلم فلاسفتنا ومفكرونا هذا التاريخ البشري.
فالفكر العربي الحالي أسوء من الفكر القروسطي : يعلم ويدوخ نفسه بنفسه ليتابع سباته واستغباء قراءه.