Loading

القياس الشعري والتخييل عند الفارابي

القياس الشعري والتخييل عند الفارابي

لويسْ خَابْيِيرْلُوبيثْ فارْخَاتْ
جامعة بَانْأمريكَانَا-مكسيكو سيتي

ترجمة محمد الولي[1]
جامعة سيدي محمد بن عبد الله-فاس

كثيرة هي الدراسات التي أنجزت في العالم العربي حول دمج كتابي الخطابة والشعر لأرسطو ضمن الأورغانون. وإذا تم الاتفاق بين تأويلات عمل أرسطو، فإن ذلك يتمثل في الدور المركزي الذي اتخذه المنطق لتأمين الصحة الحجاجية لكل خطاب. من المعروف جيداً أن أرسطو يدرس أنواع القياسات في الأعمال المختلفة التي تشكل الأورغانون، بدءاً من البرهاني في التحليلات الثانية إلى الجدلية في الطوبيقا أو الإقناعي في الخطابة.

إن القياس البرهاني هو بالنسبة إلى الفارابي، كما هو الأمر بالنسبة إلى غالبية الشراح، الأكثر سلامةً بين كل أضرب القياس. يتعلق الأمر بقياس قائم على مقدمات بديهية تخلص دائما إلى نتيجة صادقة. ومن جهته فإن القياس الجدلي لا يخلص إلى نتيجة صادقة وإنما يخلص إلى نتيجة محتملة. إن هذا يعود إلى كون مقدماته ليست يقينية وإنما هي ظنية. ففي الوقت الذي نجد القياس البرهاني يضِيق بالوظيفة الإقناعية بسبب درجة الضرورة واليقين الذي تقوم عليه المقدمات والخلاصة، فإن القياس الجدلي يولد اقتناعات قد لا تكون صادقة بالضبط. وبهذا المعنى يبدو أن القياس الجدلي شبيه جدا بالقياس الخطابي.

ففي كتابه إحصاء العلوم درس الفارابي بدقة بنية كل واحد من القياسات البرهانية والجدلية والخطابية والسفسطائية. وفي ما يتعلق بالقياسات الثلاثة الأخيرة، فإن الاهتمام ينصب خاصة على تحليل تأليفها لكي تكون أنجع وأشد إقناعاً في الأمور العملية.[2] لن يتأخر ظهور صنف آخر من القياس الذي يُدرج في ما يسمى ”الصناعات القياسية“. يتعلق الأمر في الواقع بالقياس الشعري. إن وظيفة هذا الأخير تشكو من غموض ظاهر، إذ إن المقدمات التي يتألف منها تبدو كاذبة. يهتدي الفارابي في نصوص عديدة بطرق متعددة لإقامة علاقة الفعل الشعري باستعمالات اللغة، وبالمنطق، والأكثر من ذلك بالثقافة السياسية والدينية. سأدافع بالخصوص في الفقرات الموالية عن الوضع التخييلي الذي يكمن في صناعة الشعر.

إن السؤال الأولي المطروح هو في البدء، بالنسبة إلينا نحن الذين حاولنا اكتشاف التقلبات القياسية لأرسطو: هل يمكن أن يوجد قياس في صناعة الشعر؟ إن كتاب الشعر يمكن أن يدرس باعتباره فقط مصنفاً في النقد الأدبي. إننا نعثر، في أغلب الفقرات التي تكونه [أي كتاب الشعر]، على ملاحظات حاذقة في إبداعها حول الشعرية الكلاسيكية، وأشكالها التعبيرية التي تتوسل بها؛ والأكثر من ذلك هو أن أرسطو يعبر بوضوح عن أن صناعة الشعر تبدو أنها تستهدف الهوى [أو الباتوس πάθος] والنزوع الأخلاقي [أي الإيطوس ἦθος]. ولذلك يبدو أن التفكير في قيامه على بنية منطقية ليس بديهيًا. لهذا يمكن الاعتقاد، كما قد يفعل الأدباء ذوو الجذور الرومانسية، أن التماس منطق ما للشعرية قد يكون سببًا في نفي صورتها التعبيرية الخاصة، وتقييد إلهامها أو الإجهاز الكامل على الأدب. الفارابي لا يرى الأمر بهذا الشكل. هذا هو السبب الذي جعله يهتم بتوضيح كون المنطق يستعمل صناعة الشعر. بطبيعة الحال لا يتعلق الأمر بمنطق مثل ذلك المعروض في التحليلات الثانية أو البرهان.

ففي تصنيف أوگست إمانويل باكر (August Immanuel Bekker, d. 1871)، يبدو كتابا الخطابة والشعر، مستقلين عن مصنفات المنطق، ومرتبين باعتبارهما إبيسْتمي بُويِيتِيكيἐπιστήμη [3] [أو العلوم الصناعية]. وحسب بُولْ مُورُو Paul Moraux فإن هذه مقولة تنطبق على الصناعتين بعد تصنيف أنْدرُونِيكُوس الروديسي Andronico de Rodas (القرن الأول ق. م.) وبالتقريب مع نهاية القرن الثالث.[4] المسألة هي فهم المقصود بالمعرفة الصناعية. إن المقصود الشائع عند القدماء في الفلسفة الأرسطية من العبارة ἐπιστήμη  هو نمط من المعرفة المتعارض مع الطابع النظري لما يدعى علوماً نظرية [أي غير عملية]. إن التمييز بينهما يبدو أوضح في ضوء كتاب ما بعد الطبيعة، VI، 1، 1025ب 18–28؛XI، 7، 1064أ، 10–1064ب 1. ففي هذين النصين تُفسَّرُالمعرفة الصناعية انطلاقاً من اعتبار عام للعلاقة القائمة بين العلل الأربعة وموضوع مختلف العلوم النظرية وكيف أن هذه ترتبط بدورها بالفلسفة الأولى.

وإذا تركنا جانبًا المجادلة حول التقسيم الأرسطي للعلوم، فإن الواضح هو أن كل نمط من المعرفة، في فلسفته، يقابله صنف من القياس. إن الفهم العام للقياس موجود في التحليلات الأولى أو كتاب القياس. وتبعاً لملاحظات إنگمار دورِينْغْ Ingemar Düring، فإن القياس البرهاني للتحليلات الثانية والقياس الجدلي في الطوبيقا، لا يمكن فهمهما بدون الإحالة، بالتوازي مع ذلك، على التحليلات الأولى.[5] لقد ذكرنا آنفاً بأن قوة القياس الجدلي تكمن في ظنية مقدماته. إن الشبه بين هذا القياس والقياس الخطابي قابل للإدراك بسهولة ويقبل، جَدَلًا، التميُّز. هذا النقاش لن أخوض فيه في هذا البحث. أكتفي هنا بالقول: إن أرسطو يؤكد في الخطابة: ”وليس توجد صناعة أخرى تستنتج نتائج متضادة: وإنما يفعل ذلك الجدل والخطابة، إذ إنهما معًا يفترضان المتضادين.“[6]

ومع ذلك، وبالعودة إلى موضوعنا الأول، هناك خصوصية في الفعالية الشعرية، وهي التي تهمنا. فإذا كانت مقدمات القياس الجدلي احتمالية تمامًا، كما هو أمر مقدمات القياس الخطابي، فإن تلك المستعملة في القياس الشعري تبدو كاذبة. ومع ذلك فإنها تنطوي على مدلول ليس بالضرورة كاذباً. يكشف الفارابي عن السبب الذي يقوم عليه شيوع فكرة اعتبار الشعر كاذبا. إن ذلك يعود إلى أنه نظرا لعدم ارتباط مقدماته بالواقع فإن هذه لا تكون بالضبط كاذبة وإنما تكون تخييلية. وعلى وجه العموم فإننا نعتقد أن إنتاجات الخيال تحتفظ بمسافة ما أمام الواقع، وتبعا لذلك فلا مجال لإصدار أحكام الصدق بشأنها. إن الخيال لا يشتغل بنفس الطريقة حينما يكون شيءٌ محسوسٌ حاضراً، وحين لا يكون كذلك. إن استقلاله عن العقل وعن الحس نفسه يسمح له بابتكار كائنات خيالية تم إنشاؤها انطلاقاً من الحسي، ولكن بدون الإحالة المباشرة عليه. ولهذا السبب فإن الكائنات المتخيلة المختلفة عن مصنوعات التخييل باعتباره ملكة، غيرُ موجودة. فإذا كان شيءٌ ما ممتنعَ الوجود فلا مجال للقول بأنه صادق أو كاذب. إن الخطاب الشعري قول تخييلي؛ وتبعاً لذلك فلا يقال عنه بأنه صادق أو كاذب. ومع ذلك، فإن الفارابي يرى أنه إذا لم يكن وارداً إصدار أحكام الصدق، فإنه من الوارد إصدار تلك الأحكام في ما يعود إلى محتوياتها. يمكن التسليم بأن الخطاب الشعري ينطوي على مدلول أو محتوى قابل للفهم وأنه علاوة على ذلك يدفع إلى الفعل، بغض النظر عن قيمته الصدقية. يكفي كدليل على ذلك استعمالاته التربوية والاجتماعية والدينية.

انطلاقا من هذا الاكتشاف يباشر الفارابي بحثًا في المناسبة المنطقية والحجاجية التي تقوم في الشعر. قد لا نجد عند الفيلسوف معالجة دقيقة للعلاقة بين المنطق والشعر. ومع ذلك فإن هناك محاولة صارمة جدًّا لإقامة البنية الصورية للشعر الذي سيُلهِم لاحقاً شروح ابن سينا على كتاب الشعر.[7]

يعتقد الفارابي أن هناك بالأساس عاملين يسوغان الوضع المنطقي للشعر. ففي البدء، الخطاب الشعري يتم تصوره من زاوية التخييل، وبهذا المعنى، فإن مقدماته،كما لاحظنا، ليست صادقة أو كاذبة، بل إنها تخييلية، وتبعا لهذا، فهي غير ذات قيمة صدق، إلا أنها ذات معنى؛ ومن جهة أخرى، يشير إلى أن هناك نوعاً من الحجة بالمثال في المحاكاة الشعرية. ففي الفصل 56 من فصول منتزعة يشدد على العلاقة القائمة بين المحاكاة والتخييل في ستة أنماط من الشعر المعروفة.[8] وبهذا المعنى يفسر الفارابي بأن كل شعر قد تم ابتكاره لإنتاج تخييل جيد لشيء ما (إنه ينسخ واقعاً في الخيال). والفارابي يماثل بين الشعر والخيال.

يمكن فهم ما تقدم، بسهولة أكبر، إذا فسرنا باختصارٍ نمطين من الشعر. ومع ذلك، فمن الحذر التذكر بأن ملاحظات الفارابي هي تأويلية إلى درجة الاستقلال الواضح، في مناسبات عديدة، عن الفلسفة الأرسطية الخالصة. هذا ما حصل في هذه الحالة. ففي البدء لا يشير أرسطو في كتاب الشعر ولا في كتاب الخطابة، إلى أية علاقة مع كتاب النفس، وبشكل ملموس إلى دراسة التخييل الحاضر في هذا المصنف، والذي سيظهر لاحقاً أنه ضروري لأجل فهم القياس الشعري. الأكثر من هذا، وعلى صعيد مظاهر أبسط، فعلى الرغم من أن أرسطو يميز في كتاب الشعر أجناساً أدبية مختلفة ويهتم خاصة بدراسة التراجيديا والملحمة،[9] فإن منظور الفارابي يظل مختلفا. إنه يحصي ستة أنماط من الشعر، ثلاثة منها محمودة، وثلاثة مذمومة. وبهذه الكيفية فإن كل واحد من هذه الأنماط يتمتع بأهمية أخلاقية، وانطلاقاً منها يرى كيف أن محتويات الشعر لها مدلول يتعلق مباشرة بالأخلاق.

من المثير للانتباه أن الفارابي لا يطلق أسماء على أي واحد من هذه الأنماط، وخلافاً لذلك فإنه يصف وظائفها:

إن النمط الأول يُوثِر القوة الناطقة المكرَّسة لتوجيه الأفكار نحو ”الحسَن“، والفضائل والسعادة بغاية تحقيق الملائم ومعارضة غير الملائم من الشر الأخلاقي. إن هذا النمط يستعين بتخييل”[…] الخيرات، [لأجل] جودة تخييل الفضائل وتحسينها وتفخيمها، وتقبيح الشرور والنقائص وتخسيسها.“[10]

النمط الثاني من الشعر ينصب على الصفات التي تصلح وتعدل عوارض النفس التي تلازم القوة الأخلاقية وأخلاق الأفراد ما داموا يحققونها باعتدال. مثال ذلك، الغضب وعزة النفس والقسوة والنخوة والقحة…إلخ.

والنمط الثالث يعارض صفات أو عوارض النفس التي تضعف الأخلاق ومزاج الأفراد، مثال ذلك البذخ، ورقة النفس ورخاوتها، والحياء واللين والترفه، إلخ.

كل واحد من هذه العوارض pasiones والفضائل والرذائل، التي اهتم بها الفارابي، حاضرة في أنماط الشعر. ويبدو، بهذا المعنى، أن الشعر قادر على إثارة حالة تطهيرية: ففي الشعر نفهم ونرى تحقق كل المواقف الإنسانية المحمودة والمذمومة، والتي تدفعنا، حال ملاحظتها في الأنماط الأخرى، إلى قبولها أو رفضها. النمط الثاني من الشعر يقدم لنا عوارض وفضائل تقوينا؛ والنمط الثالث ينبهنا على تلك العوارض والأهواء والرذائل التي تضعفنا.

الأنماط الثلاثة الأخرى من الشعر نقيضة هذه، أي أن منها ما يدفع إلى الرذيلة وينقص من الفضيلة، ومنها ما يعرض لنا القوة الأخلاقية باعتبارها ضعيفة الجاذبية، ومنها ما يُعلم الرذيلة باعتبارها أمرا محموداً. انطلاقا من هذا التقسيم نفهم أن القول الشعري، الذي يبدو كاذبًا، قد يُشْبِه بالأحرى القول الخطابي، إذ إن مقدماته التخييلية قد تكون كذلك محتملة. ومع ذلك، فإن الفارق بين نمطي القول هذين قد يكمن في أثر إقناع السامع.

لقد سبقت الإشارة إلى أن جوهر القول الشعري عند الفارابي هو التخييل. وبهذا المعنى، وكما سبق أن قلنا، إنه يتمتع، حسب ما يبدو، بشبه ما مع القول الخطابي الذي يتكون من الضمائر [القياسات الخطابية]. ويميز الفارابي بين الخطابة، باعتبارها أداة الإقناع بالأقوال بغاية الحصول على تصديق السامع، وصناعة الشعر، باعتبارها خلاف ذلك، أي القدرةُ على التخييل الذي ينهض نفس السامع إلى طلب الشيء المخيل، وإن لم يقع له به تصديق.[11]

يَستعمِل كل واحد من الأنماط الشعرية مقدماتٍ تخييلية، ولا يقدم بشكل ممنهج الموضوعات الأخلاقية التي يعتاد التعرضَ لها. إن هذه لا تُعرَض كما يُعرَضُ في مصنفات الأخلاق التي تعالج، مثلاً، بشكل جدلي أو خطابي جوهرَ الفضيلة ومناسبتَها. إن القول الشعري مختلف، إذ إن الشعر، كما سندرس ذلك لاحقًا، يحاكي الواقع عن طريق التشبيه؛ ثم يقوم بيتمثيله لاحقا، وحينما يتلقى المشاهد هذه المحاكاة، يعود إلى إقامة مماثلة بين التخييل والواقع. ولهذا، فإن الفارابي قد يتصور بأنه في القول الشعري يكون التمثيل المحاكي الذي تتلقاه النفس شبيهاً بالتجربة التي نعاينها حينما ندرك أي شيء. والفارق بينهما يكمن في أننا حينما ندرك شيئاً ما ونحاول البرهنة على أمر بصدده، فإنه ينبغي أن نصرح بالمقدمات اليقينية والقابلة للبرهنة. أما في القول الشعري فلا أحد يتوقع البرهنة على أمر ما لأن المقدمات تكتفي بإيعاز التخييل فقط.

ومع هذا فإذا كان القياس الشعري يستند إلى علاقة قريبة جداً من التخييل، فمن الضروري تفسير تأويل الفيلسوف للتخييل الأرسطوطاليسي.[12] يبدو من الصعوبة بمكان العثور على نص لأرسطو يحيط بوضوح بوظيفة التخييل. وعلى الرغم من أنه يشير إلى هذا في الميتافيزيقا وفي كتاب العبارة، فإن مصنفَيْن يبدوان أساسيَيْن لتصور أوسع للتخييل: كتاب النفس والأحلام. وبسبب اختصار هذه الدراسة، سأتوقف فقط عند الفصل الثالث من كتاب النفس. في هذا النص، يميز بين الحس والتخييل والعقل. من المعروف أن العنصر الأبسط في نظرية المعرفة الأرسطية، هو المعرفة الحسية: فبدون هذه لا يقوم الخيال، ولا عملية التعقل.

سيبدو الخيال باعتباره ملكة وسيطة بين الحس والعقل، إذ بما أنه من المتعذر أن نمثل صورة بدون أن يتقدمها تفكير الأشياء بدون إحساس، فكذلك من المتعذر تفكير الأشياء بدون أن تمر عبر الخيال. وبكلمات موجزة: إن النفس العاقلة لا تتمكن من أن تكون فاعلة بدون صورة. ومن هذه الزاوية فإن الخيال قد يكون أقرب إلى الإحساس منه إلى الفكر. إن الإحساس يمسك بالمفرد والتخييل يوفر الصور المفردة للأشياء الحاضرة في الإحساس أو الغائبة عنه.[13]

ومع ذلك، فإن أرسطو يشير إلى علاقة أدق بكثير بين التخييل والعقل. إن العقل واضح: فلا وجود لأية قابلية للإدراك العقلي في الإحساس الخالص؛ وعلى الرغم من أنه قد يبدو غير ممكن حتى في التخييل، فالحقيقة أنه في فعل الإدراك العقلي لا يكون فعالاً مستقلاً عن الصور. وحتى في المجردات الأشد تعقيداً مثل التجريدات الهندسية، فإن الفكر يستعين بالأمثلة الجزئية.[14] وعلى الرغم من التكامل بين الملكتين—الخيال imaginación والعقل intelecto—فإنهما تتمايزان بموضوعاتهما. إن الصورة هي دائماً متفردة، وعلى الرغم من أن التخييل قادر على إثارة الصور (الفانتازيا)، علاوة على كونه يسمح للذاكرة بحفظها، فهو غير قادر، بخلاف العقل على إصدار أحكام صادقة أو كاذبة.

 وعلى الرغم من أن الصور ليست مؤهلة لإصدار أحكام صادقة أو كاذبة، إذا كان هناك قصور ما في الحس، كما هو الأمر بالنسبة إلى من لا يبصر جيداً، فإن الصورة ستكون خاطئة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى ما هو معقول. وعلى ضوء ما تقدم، نستطيع أن نفهم كيف أن التخييل يحتفظ بمسافة مفهومية أمام الحس. والأكثر من هذا أن التخييل المعتمد على الحس لأجل اكتساب محتويات، هو ملكة مستقلة. هذا تُبرهِن عليه، على سبيل المثال، حالات النوم، حيث الصور تشتغل باستقلال عن الحس، وكذلك عن أحكام العقل.[15]يتصور أرسطو هذا التمييز لأن الصور المنامية تفتقر إلى المرجعية الواقعية. هذا الاستقلال يبين مرة أخرى أن التخييل قادر على توليد صور حيث الأحكام تكون غائبة.

إن المسألة تتعقد أكثر: فإذا كان الخيال، باعتباره ملكة مستقلة، قادراً على توليد الصور بدون العقل، يمكن أن نفكر في نوع من النزاع بين الملكة العقلية والتخييلية. إن التخييل بالنسبة إلى أرسطو يطبع الصور، والعقل يمتلك القدرة على استعمالها. إن الفارابي لا يفهم هذا الفصل، وبدل ذلك، ينسب الانطباع، كما ملكة الحكم والتغيير إلى التخييل. هنا يكمن النزاع، إذ قد يبدو حينئذ بأن محتويات العقل قد تُرَى متغيرةً بالتخييل، ومع ذلك فإن المعرفة قد تكون فقط مواجهة بين العقل وبين التمثيل المحفوظ في التخييل.

ففي فصول منتزعة يقدم الفارابي معالجة خاصة للتخييل؛[16] إذ إن هذا الأخير يستطيع الاحتفاظ بالمحسوسات، والتأليف بينها والفصل بينها، وتصنيفها وترتيبها. وبهذه الكيفية فإن الملكة التخييلية قادرة على الاحتفاظ بالصور المُدرَكة إلا أنها قادرة أيضاً على البحث عن الجديدة لأجل خلق تمثلاتِ ما هو غيرُ قابلٍ للمعرفة على الطريق الحسي، كما يحدث ذلك مع مبادئ الوجود. يمكن اكتشاف التقلب الإجرائي للتخييل: فلا يمكن اختزاله فقط في الاحتفاظ بالصور الخاصة، وإنما سيكون قادراً على توفير صور خاصة للمعقولات، أي لذلك الذي لا يستطيع التخييل خلق انطباعات له بواسطة الاحتفاظ بالمحسوس.

وبعبارة أخرى، فإن ما يفعله الفارابي إنما هو تأطير التخييل في ما هو أبعد من ملكة محاكاتية خالصة. إذا كنا نفهم أن التخييل يحتفظ بالآثار المرئية، على وجه الخصوص، فإنه يمكن أن يفعل الشيء نفسه مع حواس الشم واللمس والسمع. والأكثر من هذا: إن التخييل يمكن أن يذهب إلى ما هو أبعد من هذا النمط من التجارب حينما يكون قادراً، انطلاقاً من هذه، على الاحتفاظ بالدلائل التي يمكن أن تُقَام بينها علاقاتٌ تماثلية تساعد على فهم المعقولات. هذا ما يحصل، على سبيل المثال، حينما يحدد أرسطو حركة المحرك الذي لا يتحرك، بكيفية تماثلية مع الجنرال في المعركة، بمعنى بأنهما معا قائدان. هناك إذن قيمة معرفية في الدليل التخييلي للجنرال الذي يقود. وفي الآن نفسه، فإن هذه المقارنة تستعين بالصورة في استدلال تماثلي. ما فعله أرسطو هو أنه رتب صورة معروفة يمكننا كلنا أن نحتفظ بها ونفهمها، ومقارنتها بواقع لا نعرفه، تجريبياً على الأقل. ولهذا فبالنسبة إلى الفارابي، وفي حالات مثل هذه، نتوفر على خبر الوقائع المفارقة للحس بفضل وساطة الملكة التخييلية التي ترسل علامات إلى الفكر.

كذلك فإن هذه هي العلل التي اعتمدها الفارابي، وأرسطو في الخطابة، وبنسب أكبر في الطوبيقا، يعرفان بأن التخييل فعال في أقوالنا وتدليلاتنا، وخاصة حينما تكون هذه إقناعية. وبعد هذا، فإن الاستدلالات الموصوفة باعتبارها شعرية، كذلك يمكنها أن تُدعَى تماثلية. إن هذه يمكن أن توجد في الأجناس الأدبية، وإن أثرها كما سبقت الإشارة، هو أن تجعل الذات تقبل أو ترفض سلوكاً أخلاقياً. وكذلك فهي تشتغل في الدين والفلسفة لأنها، إذا لم تكن تلقي أضواء معرفية على الموضوع الذي تقصد إلى معرفته، فهي تحيط ببعض الخصائص المقبولة.

يمكن الاعتراض مع ذلك على ما يلي: فكما أنه يمكن الإدلاء بمعارف على المعقولات أو حول الله، فإن التخييل يمكن أن يفيد بمعارف على الكائنات غير الموجودة. إن علة هذا الاعتراض هي محسوسة جداً، وتكاد تكون تجريبية. إنني أفسر هذا كما يلي: إذا كنا نستطيع أن نفكر في ما هو موجود، وهو لذلك يتمتع بمرجعية واقعية، نقول إننا نعرفه، لا إننا نتخيله؛ وعلى العكس من ذلك يبدو أننا حينما نفكر في شيء غير موجود، هو مجرد تخييل تكون هناك ثغرة ملحوظة بين المتخيل والموجود.

 لأجل التغلب على الاعتراض يفسر الفارابي بأن الموجودات التخييلية هي إنتاجات عقلنا، متصورة باعتبارها كاذبة ومبنية انطلاقاً من حس ما. نستطيع أن نتخيل موجودات خرافية متألفة من خواص موجودة؛ نستطيع أن نتخيل علاوة على ذلك وجود شخص قد مات ولو أنه غير موجود. ففي الحالة الأولى لا يستطيع العقل الخلوص إلى استنتاج صادق متعلق بالصورة المتولدة؛ وفي الحالة الثانية، نَعم، كانت هناك إيحاءات الصدق، إذ إن المتخيّل قد وُجد قبل. ومع هذا فإن الاعتراض لم يكُفَّ عن تعميق الإشكالية بشأن المعقولات. ومع الأسف فإن المخرج غير كاف. وفي المثالين يظل التخييل ينجز وظيفته المحاكاتية. ثم بعد ذلك، يقوم بتغيير الصور وخلق أخرى. ففي حالة المعقولات أو تلك التي تعدم إحالة تجريبية، فإن ما يقوم به التخييل هو إنجاز خطوة في الخارج: أي يخلق صورة ”تشبيهية“ تكمن في إحالة تقريبية إلى ما هو غير تجريبي.

لم يكن الفارابي عديم التماسك، بل إن حجاجه لا يكف عن الإدلاء باستنتاجات كافية. إن الصورة المحاكية تكف عن الاكتفاء بوظيفة عقلية، ولا توفر سوى تفسير قليل الدقة، لأنها لا تهتم إلا بالتمثيل وليس بالأشياء ذاتها. إن القياس الشعري يشتغل اعتمادا على قياس تخييلي: فانطلاقاً من صورة معروفة نصل عن طريق التمثيل إلى شيء لم يكن معروفا عندئذ. ولكن الفارابي تهمه أكثر الآثار المقنعة، وليس مظهرها الأونطولوجي ولا قيمتها الصدقية. يبدو بالنسبة إليه أن الاستدلال بشأن صدق قياس تخييلي أو كذبه أقل أهمية من تحليل الاستجابات تجاهه. إننا سنعرف دائماً أن مقدمات هذا القياس معرضة لخطر أن تكون كاذبة. ومع هذا فإن محتوياته تؤول إلى الفعل. هنا تكمن أهمية الالتزام الأخلاقي الذي يتوارى عن أنظارنا في الحجاج السوفسطائي.

إن القياس الشعري يتمتع ببنية منطقية وعقلية؛ إلا أنه نظراً لعلاقته الضيقة بالتخييل، يدرج عاملا انفعاليا يميزه عن القياس البرهاني apodíctico وعن الجدلي dialéctico. ولا ينبغي أن نفهم من هذا أن التخييل لاعقلي. إن ما ينبغي فهمه هو أن إنتاج الصور يمكن أن يكون مشوشا للعقل؛ إذ إن قبول هذه هو بالأساس انفعالي.[17] والأسهل من هذا هو الإعلاء من شأن الهوى وانفعال الذات بواسطة الصور الموحية أكثر من الحجج الخالصة. إن أرسطو نفسه، شأنه شأن أفلاطون مدرك لهذا الفرق. ففي سلطة جاذبية الصورة يكمن إقناع القياس الشعري: إن انطباعاً تخييلياً جيدًا سيبعث انجذاباً أو نفوراً في المشاهد.

إن القرابة الموجودة بين التخييل والانفعال تثبت استقلالية الملكة التخييلية ودورها الوسيط بين العقل intelecto والحسsensación . لقد سبقت الإشارة إلى أن التخييل مستقل عن العقل، وعلى الرغم من أن انتاجاته قادرة على الإعلاء من شأن الانفعالات في نظر من يقبلها، فليس لأن التمثيلات هي إحساسات.

هنا نستطيع أن ننظر مع سَلِيم كمال في بعض الاعتبارات التي تسهم في فهم التخييل عند الفارابي:

– إن التخييل ملكة تنتج الصور والتمثيلات representaciones التي لا تنتمي إلى الإحساس ولا إلى العقل intelecto؛

– إن وظائف التخييل لا تختزل في الاحتفاظ بالصور المتولدة عن الإحساس، بل إنها، إضافة إلى ذلك، تفصل وتربط صورا بغاية إنشاء صور جديدة؛

– وبفضل هذه الوظيفة الأخيرة، فإن التخييل يسهل فهم المعقولاتintelegibles ؛

– ورغم ما تقدم، فإن التخييل ليس قادراً على إنتاج أقوال صادقة أو كاذبة، إذ إنه يعوض واقع الأشياء بالصور والتمثيلات.[18]

– إن الصور والتمثيلات، وباستقلال عن افتقاد أي قيمة صدقية، تحث على الفعل، إذ من الجمع بين الصور وبين الأشياء الواقعية تتولد الاستجابة الانفعالية.

– إن هذا لا يعني بأن التخييل يخسر الطابع العقلي.[19]

ومع هذا، كيف تنطوي هذه الخصائص الست في الخطاب الشعري؟ ففي إحصاء العلوم، يشدد الفارابي على أن الأقوال الشعرية هي أقوال تخييلية. ولا يترتب عن هذه الملاحظة أن كل استعمال للتخييل إنما هو شعري. إن القول الشعري الحقيقي يقتضي من كل هذه الأجناس الداخلة فيه أن تتمتع بأسلوب، ووزن إيقاعي، واستعمال متميز للغة، ولحن ما. إلخ. انطلاقا من هذه الخصائص، يتم تمييز وجود أجناس أدبية عدة مثل الهجاء والكوميديا والغنائية الخ. كل هذه الأجناس الأدبية تتحقق حال توفير صورة أو تمثيل تنعدم فيه قيمة الصدق، إلا أنها قادرة على الإعلاء من شأن أهوائنا.

إن النفس الانفعالية تحتل موقعها في مستوى ما قبل العقلية pre-racional؛ وهو مستوى يرتبط حسب الفارابي بتجربتنا الأصلية مع الأشياء. يستعين سليم كمَال بمثال بالغ الوضوح: ”إذا كان هناك شخص نكرهه يستعمل دوما نمطا من الألبسة، ونربط هذه بنفورنا، ففي كل مرة نرى شيئا شبيها بهذه الألبسة التي ننفر منها، ينتابنا النفور من كل شخص يكتسي ألبسة شبيهة؛ إذ نتخيل مباشرة أن هذه الأشياء منفرة لنا، ينتاب ذهننا النفور منه؛ إننا نرفضها، ولو أننا نعلم أنها ليست واقعاً ما نتصوره إنما هو مظهر فقط.“[20]

كيف تكون العملية القياسية التي يتصورها، حسب الفارابي، الشخص الذي يستدل كما في المثال السابق؟ إن ما فعله هو إنشاء قياس تمثيلي. أي إننا نعلم مقدما أن لـ”أ“ علاقه مشابهة مع ”ب“ ومع ”ج“. فإذا كان ”أ“ شبيها بـ”ب“، يمكن أن يتأثر السامع إذا أقام العلاقة بين ”أ“ و ”ج“. إن هذا واضح في المثال: ”أ“ هو اللباس، و”ب“ هو النفور. فإذا كان أحدهم يود أن ينتاب شخص ما نفورٌ إزاء أحدهم، فحينئذ سيقيم مشابهة بين ”أ“ (اللباس) و ”ج“ (موضوع الكراهية). يستنتج كمال: ”يكون القياس الشعري ناجحا حينما يسمح للشخص بأن يشعر بالمشابهة (على أساس التصور التخييلي للمقدمات) المستخلصة من تشبيه أو تمثيل.“[21] إن حذق الشخص المبدع لاستعارات وتمثيلات، من قبيل ما يقدم عليه خطيب، أو شاعر، ينبغي أن يكون بالأساس إدراكا جيدا للمتشابهات. وأرسطو ينبه على ذلك بشكل متكرر.[22]

     الخلاصة، يوجد قياسٌ شعري يستعين بالتخييل، وهو في حالة الفارابي يبين التقلب الحجاجي الذي ينطوي عليه المنطق الأرسطي. وفي رأيي، يتعلق الأمر باستدلال تمثيلي لا يستعمله الفارابي للأدب فقط، بل يستعمله للميتافزيقا أيضاً. لا يوجد عند الفارابي تبخيس للحجاج الخطابي أو الشعري بوصفهما من الأساليب غير الصورية التي تتعارض مع صورية القياس البرهاني. وعلى العكس من ذلك، فإن واحدة من المساهمات الأغنى للفارابي ولابن سينا بعده، هي أنه قد أشار إلى التعددية الحجاجية والأسلوبية التي توجد في الخطاب الفلسفي.

 

للتوثيق

فَارْخَات، لويسْ خَابْيِيرْلُوبيثْ. ”القياس الشعري والتخييل عند الفارابي.“ ترجمة محمد الولي. ضمن موقع الفلسفة والعلوم في السياقات الإسلامية، الرابط <https://philosmus.org/archives/3670>

محمد الولي

محمد الولي دارس مغربي متخصص في الشعرية والبلاغة والاستعارة. وينصب اهتمامه تحديدا على ثلاثة مجالات أساسية: أولا، الفكر البلاغي اليوناني؛ والجهود البلاغية في المصادر العربية؛ والنظريات البلاغية كما تبورت في الدارسات المنطقية والخطابية والعلمية المعاصرة. صدرت له دراسات وترجمات عديدة؛ نذكر منها: الخطابة والحجاج. بني ملال: منشورات فَالْيَة، 2020؛ فضاءات الاستعارة وتشكلاتها في الشعر والخطابة، والعلم والفلسفة، والتاريخ والسياسة. بني ملال: منشورات فَالْيَة، 2020؛ والاستعارة في ثلاث محطات يونانية وعربية وغربية. الرباط: منشورات دار الأمان، 2005. كما ترجم أعمالا هامة في البلاغة والشعرية والاستعارة، نذكر منها، ترجمته: كوهن، جان. الكلام السامي، نظرية في الشعرية. بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2013؛ وريكور، پول. الاستعارة الحية. بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2016. وله قيد النشر ترجمة: Perelman, Chaim. Traité de l’argumentation. La nouvelle rhétorique. Bruxelles, Éditions de l’université de Bruxelles, 1970. . هذا فضلا عن مقالات في المجالات المذكورة أعلاه منشورة في مجلات مغربية وغيرها.

[1]تفضل المؤلف الزميل خَابْيِيرْ لُوبيثْ فارْخَاتْ من جامعة بانأمريكانا، المكسيك، بمراجعة الصيغة الأولى للترجمة العربية لهذا المقال، وأجازها بعد أن عدّل فيها بعض العبارات وحذف جملة أو جملتين لتتناسب مع نظرته للموضوع اليوم. وقد أَطْلَعنا على جميع التعديلات. وبهذه المناسبة أتقدم بالشكر إليه وإلى فؤاد بن أحمد (جامعة القرويين-الرباط) الذي راجع معي الترجمة. وما يجدر بنا ذكره، أن عنوان المقال الأصلي ومصدره هو:Luis Xavier Lopez Farjeat, “Silogismo poético y la imaginación en Alfarabi,” Tópicos (2000), 97–113.

 [2]انظر الفارابي، إحصاء العلوم، تحقيق عثمان أمين، ط. 2 (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1968)، 80–82.

[3] Cfr. Immanuel Bekker, Aristote Opera, Deutsche Akademie der Wissenscgaftenzu Berlin (Berolini: Gruyter, 1961), vol. II.

[4] Paul Moraux, Les listes anciennes des ouvrages d’Aristote (Louvain : Éditions universitaires de Louvain, 1959), 179.

[5] Ingemar Düring, Aristóteles (México: UNAM, 1990), 96.

[6] Aristótles, Retórica, I, 1. 5, 1355a 35ss.

[7] شرح ابن سينا على كتاب الشعر مترجم إلى الإنجليزية من قبل إسماعيل دهيات بعنوان:

Avicenna’s Commentary on the Poetics of Aristotle, a Critical Study with an Annotated Translation of the Text by Ismail Dahiyat (Leiden: Brill, 1974).

 [8]الفارابي، فصول منتزعة، حققه وقدم له وعلق عليه فوزي متري نجار، ط. 2 (بيروت: دار المشرق 1993)، فصل 56، 63–64.

[9] من المعروف أن أرسطو قد انصرف في الفصول الأخيرة من كتاب الشعر إلى دراسة جِنْسَين هما التراجيديا والملحمة، حيث الآثار التطهيرية الخاصة بانفعالي الخوف والشفقة. إن الفارابي هو أيضاً يتصور الآثار التطهيرية للشعر، ولكن بطريقة أوسع، وفعل ذلك بدون إطلاق تسميات مميزة لنمطي الشعر. يمكن أن نرى إذن كيف أن شعرية أرسطو تمكن دراستها بوصفها مصنفاً في الصناعة الأدبية، في حين أن الفارابي، بالإضافة إلى اهتمامه بالصناعة النحوية لإنشاء خطابات شعرية، يهتم أكثر ببنيته المنطقية الصورية، وعلاقته بالتخييل وآثاره الانفعالية في المستمع.

 [10]الفارابي، فصول منتزعة، فصل 56، 64.

[11] في فصول منتزعة يشرح الفارابي في الفصلين 54 و55، بوضوح الفروق بين صناعتي الخطابة والشعر. ففي الأول يفسر بأن ”الخطابة هي القدرة على المخاطبة بالأقاويل التي بها تكون جودة الإقناع في شيء شيء من الأمور الممكنة التي توثر أو تجتنب. غير أن الفاضل من أصحاب هذه القوة يستعملها في الخيرات، ويستعملها الدهاة في الشرور.“ وفي الفصل الثاني نقرأ: ”جودة التخييل غير جودة الإقناع. والفرق بينهما أن جودة الإقناع يقصد بها أن يفعل السامع الشيء بعد التصديق به. وجودة التخييل يقصد بها أن تنهض نفس السامع إلى طلب الشيء المخيَّل والهرب منه أو النزاع إليه أو الكراهة له، وأن يقع له تصديق، كما يعاف الإنسان الشيءَ إذا رآه يُشبه ما سبيله أن يعاف في الحقيقة وإن تيقَّن أن الذي رآه ليس هو ذلك الشيء الذي يعاف. وتستعمل جودة التخييل فيما يسخط ويرضي وفيما يفزع ويؤمن وفيما يلين النفس وفيما يشدها وفي سائر عوارض النفس. ويقصد بجودة التخييل أن يتحرك الإنسان لقبول الشيء وينهض نحوه وإن كان علمه بالشيء يوجب خلاف ما يخيل له فيه. وكثير من الناس إنما يحبون ويبغضون الشيء ويوثرونه ويجتنبوه بالتخيل دون الروية إما لأنه لا روية له بالطبع أو أن يكونوا اطرحوها في أمورهم.“

[12] هي بالأساس ثلاثة أبحاث كرست عدة صفحات للدراسة الدقيقة للخيال الأرسطي وتلقيه في العالم العربي، بالإضافة إلى علاقته بما يدعى القياس الشعري. أولى تلك الدراسات، وقد أحلت على ذلك باستمرار في هذه الدراسة المختصرة. يتعلق الأمر بسليم كمال: Salim  Kemal, The  Poetics  of  Alfarabi and  Avicenna   (Leiden:  E.  J. Brill, 1991)

والدراسة الثانية لا غنى عنها بالنسبة للدارسين للفلسفة العربية. أقصد بهذا إلى الدراسة الممتازة 170 لديبُورا بْلَاكْ:

Logic and Aristotle’s Rhetoric and poetics in Medieval Arabic Philosophy (Leiden: Brill 1990).

الدراسة الثالثة هي لرَفائِيلْ رَامُونْ غيرِّيرُو والذي أفادنا بترجمات نفيسة للفارابي إلى الإسبانية. ولقد أفادتني هذه الدراسة كثيراًLa rcepciónárabedel « De anima » de Aristoteles: Al-kindi y Al-farabi, Madrid : CSIC 1992. فمن الصفحة 170 إلى الصفحة 177 من هذا العمل، يشرح رامون غِيرِّيرُو كيف أن الفارابي يعتبر الملكة الحسية لها غاية أساسية هي العملية المعرفية. وفي هذه العملية تتدخل ثلاث ملكات، هي: الحواس، والتخييل والعقل. فبدون الحس لا يمكننا أن نعرف أي شيء على الإطلاق. وإذا فقد أحدهم حسا ما فقد فقد علما ما. وبهذه الطريقة فإنه سيكون محروماً من علم معين، كما يفيدنا بذلك أرسطو في التحليلات الثانية، I، 18، 81ب 38. وفي كتاب النفسI ،، III 42ب 26–27.ومن زاوية أخرى، فإن الملكة التخييلية لها وظيفتان: الاحتفاظ بالصور الحسية في حال الغياب عن الحواس وتأليفها وتقسيمها الواحدة بأخرى، تبعا لمختلف التأليفات والتقسيمات، الصادقة حينا والكاذبة طوراً آخر. وكذلك فإن الخيال في رأي الفارابي ملكة وسيطة بين الحواس والعقل: إنه مدين للأولى وينطوي على الثانية؛ لأنه في الحقيقة يزود العقل بالعتاد الناشئ عن الحواس. إن للتخييل إذن ثلاث وظائف: سالبة باعتبارها تحتفظ بصور ما، وفاعلة من حيث إنها تشكل وتؤلف وتعزل صورا أخرى؛ وفي المقام الثالث، فإن الأهم من بينها جميعًا هي النشاط الذي لا يخضع للمواد التي توفرها الحواس، ولا الذاكرة، ولا التأليف وتقسيم الصور الحسية: إنه المحاكاة. هذه هي الوظيفة التي تسمح للخيال بأن يتمثل في صور الحقيقة الميتافزيقية وتتمكن من تحويلها إلى رموز. إن المحاكاة هي إذن معرفة ناقصة يحصِّلها التخييل من المعقولات. وبما أنه غير قادر على تلقي المعقولات على غرار ما يعمل العقل فإن ما يفعله هو تمثيل صورة من الصور الحسية. ولأجل إنجاز هذه الوظيفة الأسمى فإن الخيال يستدعي تدخل العقل الفعال. إن تحيين التخييل من جهة العقل الفعال، يدرك عامة خلال الحلم، وإن كان بمقدور بعض الأشخاص أن يفعلوا ذلك خلال حلم اليقظة. إن مثل هذا التحيين خليق بالأنبياء، الذين يتلقون الوحي الإلهي. في التخييل تكمن إذن صفة الإلهام والنبوة.

 [13]وفي هذا الصدد فإنه يبدو لي أن كتاب النفس ليس واضحاً بما فيه الكفاية بخصوص التمييز بين الخيال والذاكرة. يبدو أن ما يميز الأول هو تولد انطباع صورة إحساس بالفعل: ”التخيل [هو] الحركة المتولدة عن الإحساس بالفعل. ولما كان البصر هو الحاسة الرئيسية فقد اشتق ”التخيل“ (الفانتاسيا) اسمه من النور (فاوس)، إذ بدون النور لا يمكن أن نرى، ولما كانت الصور تبقى فينا وتشبه الإحساسات، فإن الحيوانات تفعل أفعالا كثيرة بتأثيرها، بعضها لأنها لا يوجد عندها عقل، وهذه البهائم، وبعضها الآخر لأن عقلها يظلم بالانفعال، أو الأمراض، أو النوم كالحال في الإنسان“ (كتاب النفس، ، III 4، 429 و [ترجمة فؤاد الأهواني]) أما الملكة الثانية، خلافا لذلك، تحتفظ بتلك الصور. وخلال الحديث عن الأشياء الغائبة عن الإحساس، قد يكون من الأجدر الحديث عن الذاكرة أكثر من التخييل.

[14] يقول أرسطو في عمله عن الذاكرة والتذكر، I، 450 أ، 1–5: ”في الحقيقة يحدث الفكر على غرار التخييل، نفس الأثر في الفكر تماما كما يحدث حينما نتخيل صورة. ففي هذه الحالة، وإن كان مما لا يكتسي أهمية كون المثلث يتصف بأبعاد محددة، فإننا نرسمه مع ذلك بأبعاد محددة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى من يفكر فيه، رغم أنه لا يفكر في أبعاد محددة، يضع نصب عينيه أبعاداً محددة، إلا أنه لا يفكر في أن له أبعاداً محددة.“

[15] Cfr. Aristoteles, De insomiis, 459a 18–22

[16] الفارابي، فصول منتزعة، الفصل 7، حيث يمكن أن نقرأ تفسير قوى النفس الخمسة: في المرتبة الأولى الغاذية، وبعدها الحاس، وبعدها المتخيل، والنزوعي، وأخيراً الناطق. فعن المتخيل أستحضر قوله نصا: ”والمتخيلة هي التي تحفظ رسوم المحسوسات بعد غيبتها عن مباشرة الحواس لها فتركب بعضها إلى بعض تركيبات مختلفة وتفضل بعضها عن بعض تفصيلات كثيرة مختلفة بعضها صادق وبعضها كاذب، وذلك في اليقظة والنوم جميعاً. فهذه والغاذية قد يفعلان عند النوم دون سائر القوى.“ وأتخلص هنا من خلط محتمل: وهو تركيب التخييل لصور، منها الصادقة والكاذبة، لا يعني أنه يملك ملكة الحكم، إذ كما سبقت الملاحظة، هذه الملكة مقصورة على العقل intelecto. إن العقل هو إذن ما يتمكن من أن يصوغ القيمة الصدقية للصور، ولو أن هذه في ذاتها تعدم تلك القيمة.

[17] هذا يعني أن قوة التخييل تقع في مستوى ما قبل التفكير. إن الطابع المباشر للصورة وسلطتها لكي تتمكن من إثارة الانجذاب أو النفور تظهر العلاقة الموجودة بين النزوع orexis والتخييل. إن ذلك الربط يبدو بوضوح في كتاب النفس، ،III 431و 9–18 [ترجمة فؤاد الأهواني]، حيث نقرأ بأنه ”[…] إذا كان المحسوس لذيذا أو مؤلما، فإن النفس تطلبه أو تتجنبه بنوع من الإيجاب أو السلب، والشعور باللذة والألم هو التأثير بقوة الحس، كأنها متوسط ومتصل بالحسن أو القبيح من حيث هما كذلك. والهرب والنزوع إذن من أفعال هذه القوة، وبمعنى آخر قوة النزوع وقوة الهرب لا تتميز إحداهما عن الأخرى، ولا تتميزان عن قوة الحس، ولو أن ماهيتيهما مختلفتان. أما النفس الفكرية، فإن الصور تحل فيها محل الإحساسات، فإذا أثبتت الحسن ونفت القبيح، هربت أو طلبت. ولهذا لا تعقل النفس أبدا بدون صور.“

[18] إن صدق أو كذب صورة ما يوصفان فقط بطريقة ما، أي باعتبارها تناسب الواقع أو لا تناسبه. بهذا المعنى، فحين نكون أمام صورة متولدة عن إحساس في حالة فعل، يمكن القول بأن الصورة صادقة، ولو أنه بالمعنى الدقيق الصدق لا يتعلق إلا بالحكم فقط ولا يتعلق بالتخييل. بما أن الصورة تتميز عن المفهوم إذ إن الأولى هي مجرد انطباع، يعتبر الفارابي التمثيل هو بطريقة ما كاذب، أو على الأقل متميز عن المفهوم ومختلف عن الإحساس. وباختصار فما ينبغي أن نفهمه هو أن الصورة في ذاتها، مستقلة عن الفهم تعدم الصدق أو الكذب.

[19] Cfr. Kemal, The poetics of Alfarabi an Avicenna, 105.

[20] Kemal, The poetics of Alfarabi and Avicenna, 105.

[21] Kemal, The poetics Alfarabi and Avicenna, 106.

[22] Cfr. Ret, III, 2. 3; 1405a 5ss; Poet., 21, 1457b 6–32.

مقالات ذات صلة

في الأصول الشرقية للفيزياء الحديثة

في الأصول الشرقية للفيزياء الحديثة

في الأصول الشرقية للفيزياء الحديثة[1] وليام رو-بيرا William Rowe-Pirra ترجمة وتقديم محمد أبركان*جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس تقديم المترجم صاحب المقال الذي نترجمه هنا هو وليام رو-بيرا William Rowe-Pirra، الكاتب الفرنسي المتخصص في الصحافة العلمية. وعلى الرغم من أن...

اعتبارات الماهية: الإبداع السينوي، وابتكار المدرّس الزنوزي

اعتبارات الماهية: الإبداع السينوي، وابتكار المدرّس الزنوزي

Iʿtibārāt al-Māhiyah:al-Ibdāʿ al-Sīnawī, wa Ibtikār al-Mudarris al-Zanūzī اعتبارات الماهيّة: الإبداع السينوي، وابتكار المدرّس الزنوزي   رامين عزيزي وجهنكير مسعودي جامعة فردوسي، مشهد  ترجمها عن الفارسية الهواري بن بوزيان جامعة المصطفى العالمية، قم...

العلم العربي والثقافة الإسيدورية (92-206هـ/711-821م)

العلم العربي والثقافة الإسيدورية (92-206هـ/711-821م)

العلم العربي والثقافة الإسيدورية (92-206هـ/711-821م) خوليو سامسو نقله من الإسبانية إلى العربية مصطفى بنسباعجامعة عبد المالك السعدي-تطوان تقديم رغم أن كتاب علوم الأوائل في الأندلسLas ciencias de los antiguos en al-Andalus للأستاذ خوليو سامسو Julio Samsó قد صدر سنة...

بأي معنى ولأي غرض ندرس تاريخ الفلسفة الإسلامية؟ تاريخ تقليد مهمل

بأي معنى ولأي غرض ندرس تاريخ الفلسفة الإسلامية؟ تاريخ تقليد مهمل

بأي معنى ولأي غرض ندرس تاريخ الفلسفة الإسلامية؟ تاريخ تقليد مهمل* هانس ديبرترجمة وتقديم فؤاد بن أحمد تقديم الترجمة هانز دايبر مستشرق ألماني من مواليد عام 1942. حصل على الدكتوراه عام 1968. واشتغل أستاذًا للغة العربية والإسلام في الجامعة الحرة بأمستردام من عام 1977 إلى...

تقليد عثمانيّ في شرح كتاب الغزالي ’تهافت الفلاسفة‘: ملاحظات أوليّة

تقليد عثمانيّ في شرح كتاب الغزالي ’تهافت الفلاسفة‘: ملاحظات أوليّة

تقليد عثمانيّ في شرح كتاب الغزالي ’تهافت الفلاسفة‘ملاحظات أوليّة[1] تأليف: ل. فان ليتجامعة يال-نيو هيفن ترجمة وتقديم: سعيد البوسكلاويجامعة محمّد الأوّل-وجدة/جامعة زايد-أبو ظبي     تقديم المترجم ننقل إلى القارئ العربيّ دراسة قيّمة ترصد تقليدا فكريّا كاملا في شرح كتاب...

قصة عمر الأرض

قصة عمر الأرض

  قصة عمر الأرض ترجمة وتقديم محمد أبركان جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس    تقديم المترجم  المقال الذي نترجمه هنا هو للفيزيائي هوبير كريبين Hubert Krivine؛ وقد سبق لهذا العالِم أن اشتغل باحثا ضمن بنية البحث بمختبر الفيزياء النظرية والنماذج الإحصائية بجامعة...

بيبليوگرافيا وصفية للفلسفة الإشراقية

بيبليوگرافيا وصفية للفلسفة الإشراقية

   بيبليوگرافيا وصفية للفلسفة الإشراقية[1]    تأليف: محسن كَدِيوَر[2]    ترجمها عن الفارسية يونس أجعون[3]جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس (1)المقدمة 1. مكانة الفلسفة الإشراقية ضمن الفلسفة الإسلامية تُعدُّ الفلسفةُ الإشراقية أحدَ مدارس الفلسفة الإسلامية الثلاث، وقد...

جانبٌ من المنعطف السِّينوي في علم الكلام السُّنِّي

جانبٌ من المنعطف السِّينوي في علم الكلام السُّنِّي

جانبٌ من الـمُنعطف السّينويّ في علم الكلام السُّنّي[1] روبرت ويسنوڤسكي[2]جامعة ماكگيل، مونتريال ترجمة هشام بوهدي[3]جامعة القرويين، الرباط   تقديم الترجمة ما أنوي كتابته في هذه الفقرة المختصرة ليس تقديماً لمضمون المقالة ولا لصاحبها؛ لأنّ المقالة قد أصبحت من كلاسيكيّات...

القياس الشعري حسب كتاب الشعر لابن طُملوس

القياس الشعري حسب كتاب الشعر لابن طُملوس

القياس الشعري حسب كتاب الشعر لابن طُملوس مارون عواد المركز الوطني للبحث العلمي، باريس ترجمة وتقديم فؤاد بن أحمد جامعة القرويين، الرباط   تقديم حظيت نظرية الشعر المنطقية باهتمام كبير من قبل الدارسين والمهتمين بالتآليف المنطقية للفلاسفة في السياقات الإسلامية؛ ويحتل...

شذرات عربية مجهولة من كتابَي ’العناصر اللاهوتية‘ و’العناصر الطبيعية‘ لبرقلس

شذرات عربية مجهولة من كتابَي ’العناصر اللاهوتية‘ و’العناصر الطبيعية‘ لبرقلس

شذراتٌ عربيّةٌ مجهولةٌ مِنْ كِتَابَي ’العناصر اللاهوتيّة‘ و’العناصر الطبيعيّة‘ لبرقلس تأليف: شلومو بينس[1] ترجمها عن الإنجليزية: يونس أجعون[2] في مُجلَّدٍ مُعنوَنٍ بـ Proclus Arabus, Zwanzig Abschnitte aus der Institutio theologica in arabischer Übersetzung، ومنشورٍ...

مشاركة / Share
error: Content is protected !!