
صورة العقل عند الشكّاك بين القديم والوسيط

Ṣūrat al-ʿaql ʿinda al-shukkāk bayna al-qadīm wa-al-wasīṭ
Reason in the Ancient Skeptics and its Impacts during the Medieval Era
صورة العقل عند الشكّاك بين القديم والوسيط
سعاد جويني
جامعة تونس، تونس
Souad Jouini
Université de Tunis, Tunis
Abstract: The creativity of reason has been associated with many moments of regression that discussed a continuous review of its methods of action and the nature of its output. In this context, the philosophy of the skeptics was considered an immediate clear expression of the most outstanding defies which the mind had faced in its process in the past and present. The founders of this trend put trust in the capabilities of the mind into question, and they went far in asking about its possibilities and limits. Thus, Pyrrho (d. c. 275-270 BC) and his disciple Sextus Empiricus concluded that the mind is incapable of obtaining certain knowledge of existing things. The belief in the abstention of certainty caused a shock in the history of ancient philosophy, and the status of the mind changed from trustworthiness to the suspension of judgment. Thus, the contents of the problems were transformed from issues of nature and existence to the structure of the internal laws of the mind itself. In particular, it focused on the following question: How did the skeptics of the ancient period reach the destabilization of the special laws of the mind, which ended with the recognition of the weakness of the truth? Is the proof based on the logical sequence considered sufficiently coherent to recognize its ability to reach epistemological certainty? Is the mind really able to secure an actual perception of existing subjects, or is the proof of its inability to do so more certain for those skeptics? How did the above-mentioned philosophers deal with these problems? The issue of our understanding of this remains challenging, given the scarcity of texts available about them, which necessitated reading what was reported of their works within the context of the deductions that produced them. On the other hand, returning to icons representing the skeptic philosophers of the Middle Arab period, in clarifying the points of failure of the mind among the early and late ones. Al-Ghāzālī (d. 505/1111), for example, regained preoccupation with questioning this excessive positioning of the mind, according to new perspectives available at the time, which were translated into responses to some of his opponents from the philosophers of the medieval era. My purpose here, then, is twofold, and in reaching it we depend on the controversial context that we stated before. We will first work on explaining some of the objections to reason in their Greek origins. Secondly, we look at the nature of the resolutions offered by the medieval philosophers to overcome the crisis of the mind that was raised by their predecessors.
Keywords: Mind – Skeptic Philosophy – Ancient Philosophy – Medieval Philosophy.
ملخص: اقترن إبداع العقل بلحظات ارتداد كثيرة أوجبت المراجعة الدّائمة لطرق فعله ولطبيعة إنتاجه، وعدّت في هذا الاتّجاه، فلسفة الشكّاك تعبيرا واضحا عن أبرز التحديّات التي واجهها العقل في مساره القديم والوسيط. فقد وضع مؤسّسو هذا التيّار الثّقة في قدرات العقل موضع ارتياب، وذهبوا بعيدا في السّؤال عن ممكناته وحدوده. وانتهى بذلك پيرون (Pyrrhon, d. c.275-270 BC)، وتلميذه سكستوس أمپريكوس (Sextus Empiricus)، إلى إقرار عجز العقل عن تحصيل معرفة يقينيّة بالموجودات. وأحدث القول بامتناع اليقين رجّة في تاريخ الفلسفة القديمة، وانقلبت منزلة العقل من الوثوق إلى تعليق الحكم. وتحوّلت بذلك، مضامين المشكلات من موضوعات الطبيعة والوجود إلى بنية القوانين الداخليّة للعقل ذاته. وانحصرت بالخصوص في التّالي: كيف توصّل شكّاك الفترة القديمة إلى زعزعة القوانين الخاصّة للعقل والتي انتهت بإقرار وهن الحقيقة؟ وهل يعتبر البرهان القائم على التسلسل المنطقي، متماسكا كفاية، للتّسليم بقدرته على بلوغ اليقين المعرفي؟ وهل يقوى العقل حقّا على تأمين إدراك فعلي بالموجودات، أم أن برهان عجزه على ذلك أشدّ يقينا عند هؤلاء الشكّاك؟ كيف عالج الفلاسفة المذكورون هذه المشكلات؟ تظلّ مسألة فهمنا ذلك مستعصية، باعتبار شحّ النّصوص المتوفّرة حولهم، ما استدعى قراءة ما بلغ من أعمالهم ضمن سياق الخصومات التي أنتجتها. والعودة من جهة أخرى، إلى هيئات تمثّل فلاسفة الفترة العربيّة الوسيطة لقول الشكّاك، في توضيح مواضع إخفاق العقل عند الأوائل والمتأخّرين منهم. فقد استعاد الغزالي (ت. 505هـ/1111م) مثلا الانشغال بمساءلة هذا التّموضع المفرط للعقل، وفق منظورات جديدة توفّرت آنذاك، تُرجمت في الرّدود على بعض خصومه من فلاسفة الحقبة الوسيطة. غرضنا هنا إذن مضاعف، ونعتمد في بلوغه على السّياق الخصامي الذي أعلنّا عنه. فسنشتغل أوّلا على بيان بعض وجوه الاعتراض على العقل في أصولها اليونانيّة. وننظر ثانيا، في طبيعة الحلول التي قدّمها الفلاسفة الوسيطيون لتجاوز محنة العقل التي أثيرت عند أسلافهم.
الكلمات المفاتيح: العقل -فلسفة الشكّاك – الفلسفة القديمة – الفلسفة الوسيطة.
مقدّمة
انشغل الفلاسفة بهدم صورة للعقل تضاهي عنايتهم بتلك التي تمّ بناؤها، ولم يختزل فعلهم في التظنّن على هيئة مسار العقل بل اتّسع ليشمل أيضا الأسس، ومثّلت مدرسة الشكّاك في الفكر اليوناني القديم تجسيدا لمواجهة صلابة بنية العقل وسعيا إلى الحدّ من متانة إنتاجه. ولم يشفع هذا القلب الجذري في صورة العقل للشكّاك من انتزاع نفس الإشعاع الذي حظيت به الفلسفات المنتصرة لوثوق العقل على غرار الأرسطيّة والأفلاطونيّة، وتحديدا في مستوى التّدوين سواء من قبل الأتباع أو بوساطة الخصوم.
ويواجه من ثمّة، دارس الفلسفة الشكيّة شحّا في المصادر خاصّة حول النّشأة الأولى لهذا المذهب، مثلما يشير إلى ذلك العديد من المهتمّين بتاريخ الفلسفة.[1] ونجابه بدورنا صعوبة أخرى تتصل بوفرة الأعمال حول الفكر القديم بوجه عام، وبزيادة الدراسات عن شكّاك الفترة القديمة بوجه خاص، رغم عامل النّدرة المذكور. ونُنوّه في هذا المستوى بالقراءة الشاملة لكل من فكتور بروشار (Victor. Brochard, d. 1907) وفريديريك كوسيتا (Frédéric Cossutta) حول تاريخ الشكاك القدماء وبعض ملامح تصوراتهم الفلسفيّة.[2]
وارتأينا لذلك التّركيز على بعد آخر في عمل الشكّاك وهو السجّل الخصامي الذي تحرّك فيه هذا الفكر، والبحث في موضوعات النّزاع القائم بين الشكاك ونظرائهم من فلاسفة الفترة القديمة، واستعنّا في هذا المستوى خاصّة بالدّراسة التي قدّمها جون بول ديمون(Jean-Paul Dumont, d.1993) حول تاريخ الشكّاك.[3]
ونسعى في فهم خصوصيّة هذه الفلسفة اعتماد منهج المقارنة بينها وبين ما ورد عند أضدادها حول بعض المسائل الأساسيّة؛ فهل أنّ الخصومات هي التي أنتجت التصورات الشكيّة، وعدّت لذلك مجرّد ردود فعل لا ترتقي إلى مستوى البناء النّسقي المتكامل، أم أنّها تعبّر عن فلسفة قائمة بذاتها انبثقت في مواجهة أسس العقل، وذلك ما أكّد خصوصية منزلتها في تاريخ الفلسفة القديمة؟
نهدف في هذا العمل أيضا إلى البحث في تلقّي فكر الشكّاك ضمن الفترة العربيّة الوسيطة، والوقوف عند صورة العقل كما تمثّلها فلاسفة هذه المرحلة من تاريخ الفكر في ظلّ ثقافة وافدة تقوم على نقد العقل. كيف تمّ التّعامل مع فلسفة الشكّاك؟ هل حظيت بالاستعادة باعتبارها مذهبا قائم الذّات وحاملا لمضمون نسقي منظّم يؤثّم العقل، أم تمّ التّعامل معها انتقائيّا، أي في حدود ما تفرضه الحاجة التعليميّة؟
نعاين هذه المشكلات وفق خطّة بحث خصّصنا القسم الأول منها لعرض التلقي المادي لآثار الشكاك، ودراسة كيفية نقلة تصوراتهم في الفترة القديمة. ونعتني ثانيا بالنّظر في خصوصية هذا المذهب، وتوضيح بعض ملامح فلسفة الشكاك انطلاقا من مسار خصومي، كما أعلنّا في بداية المقدمة. وننهي المقال بالاشتغال على بعض ملامح تداعيات الرّواية العربية لفكر الشكاك، مقارنة بهيئات تلقي فلسفتي أفلاطون وأرسطو، ضمن نفس الفترة الوسيطة.
أولا: الإرث المادّي للشكّاك
نشير أوّلا إلى تداول اعتماد مصطلح الريبيّة في الإحالة على الشكّاك، غير أنّ هذا التّرادف الظاهر لا يُخفي وجود فارق، ولو جزئي، بين اللفظتين. فالرّيب من الرِّيبة والظنّ والوهم الذي يترجم القلق والاضطراب، وقد تحيل هذه الألفاظ في مجملها على خلط في موضوعات الارتياب بين النّفسي والقيمي والمعرفي.
بينما يفيد الشكّ التّساوي في ترجيح الحكم، وهو نقيض اليقين الجازم، ليتّصل الأمر بالمجال المعرفي، وبالنّظر تحديدا في حركة العقل موضوع انشغالنا هنا. ولذلك اعتمدنا مصطلح الشكّاك، ولم نستبعد أيضا دلالات الريبيّة كما وردت في العديد من الدراسات؛[4] وبالجملة، يُعرّف عمل الشكّاك بفعل أعدام اليقين، وهو ما سنأتي على بيانه في ثنايا المقال.
ونكتفي في هذا المستوى بعرض الإرث المادّي للشكّاك على سبيل الاختصار، نظرا لورود هذه الأمور مفصّلة في العديد من الموسوعات وعند الكثير من المنشغلين بتاريخ الفلسفة.[5] وقد تعدّدت الروايات واختلفت حول التّأريخ الحقيقي لنشأة فلسفة الشكّ التي ردّت إلى السفسطائيّة وإلى السقراطيّة، غير أنّ مجمل القراءات اتّجهت نحو نِسبة الشكّاك إلى بِيرُونPyrrhon( توفي سنة 275 ق م).[6]
تحدّد مع هذا الفيلسوف الظّهور الفعلي للتيّار الذي قدّم الشكّ على اليقين في فعل التّأسيس الفلسفي. ماذا نملك عن بيرون؟ وما هو الإرث المادّي المتوفّر عن الشكّاك؟
تعتبر الشّذرات هي السّمة المميّزة للإرث المادّي عن الشكّاك الأوائل، بل وتُلغى هذه المقاطع من النّصوص مع بيرون مؤسّس المذهب. فهو لم يترك مصادر ماديّة تعبّر عن فلسفته لاعتماده منهج مشافهة شبِّه بنهج سقراط؛ كيف نقلت إذن فلسفة بيرون وقد تعمّد إغفال تدوينها؟
عرفت آثاره بطريقين، من داخل المذهب ومن خارجه. أتى على بعض ملامح فكر بيرون الشكّي فلاسفة معاصرون له وفلاسفة لاحقون، سواء من ناحية الاعتراف والتّقدير أو من ناحية الإهمال والتّجاهل،[7] كما وصلت أهمّ مقوّمات تصوّراته عن الشكّ اعتمادا على بعض الموالين من تلاميذه ومريديه. تمّ تناقل أسس فلسفة بيرون ومنعت من الاندثار بواسطة الأتباع، وأهمّهم من جهة القبليّة التاريخيّة تِيمُون فِيلُونْتِسTimon de Phlionte(توفي سنة 235 ق م).[8]
يعود إلى تيمون حفظ ذاكرة أستاذه، وتدوين أبرز ما ورد فيها، وإجمالا يرجع إليه الفضل في التّعريف بأفكار معلّمه. وبدأ مع تيمون تحديدا التّوثيق الفعلي لفكر الشكّاك والنّقلة من نهج التّفلسف الشّفوي إلى طريق الكتابة. والمعلوم عن المؤرّخين تخيّر بيرون قصدا التّفلسف في هيئة محاورات ومجادلات شفهية مع أصدقائه وتلاميذه، ويرِد ذلك في إطار محاربة كلّ أشكال الوثوقيّة بدءا برفض اعتماد الكتابة في الفعل الفلسفي.[9]
مثّل لذلك فعل التّدوين مع تيمون لحظة حاسمة في تاريخ هذا المذهب، حيث تمّ التخلّي عن نهج الأستاذ وتخيّر مسار مغاير يعتمد رمزيّة الكتابة كشكل من أشكال التّعبير المستحدثة حينها عن فلسفة الشكّ. وترك تيمون في هذا الباب بالخصوص كتاب الصّورImages، وفيه أشاد بالقيمة المعرفيّة والعمليّة لأستاذه بيرون.[10]
ونشير في نفس السّياق إلى دور ما يسمّى بالأكاديميّة الجديدة في تثبيت مذهب بيرون، وبالخصوص عمل أَنْسِيديُموس Aénésidème(القرن الأول: في حدود 80-60 ق م) أقوال بيرونيّة Discours pyrrhoniens، الذي يعتبر ترجمة لأهمّ مواضع قول الشكّاك في دحض المذهب الطّبيعي وغيره من المذاهب التي وضعوها بين قوسين وعلقوا القول حول يقين مضامينها.[11] ويعود إلى أنسيديموس أمر التّبويب المنهجي لحجج الشكّاك الواردة عن المؤسّسين الأوائل مع بيرون وتيمون، ويليهم عمل كل من: بِيتَانِس أَرْسِليَاس
De Pitane Arcésilas (315-241 قم) ، وكَارْنِياد Carnéade (219- 129 ق م).[12]
صيغت لاحقا فلسفة الشكّاك في هيئة واضحة المعالم ضمن أعمال سِكْتُوس أَمْبِيريقُوس Sextus Empiricus. (نهاية ق1وبداية ق2م) وضع هذا الرّيبي المتأخّر مذهب الشكّ في صيغتين متكاملتين، وردت الأولى ضمن كتاب تهافت الدّغمائيّة (contre les dogmatiques) وفيها عرض للأسس العامّة للمذهب. وتبلورت الثّانية ضمن كتاب مقولات بيرونيّة (les esquisses pyrrhoniennes)، وتعبّر عن تعميم تطبيق منهج الدّحض في مختلف مجالات المعرفة.[13]
نخلص في خاتمة هذا القسم التمهيدي من العمل إلى التّالي:
ميزّت الأعلام المذكورة مسار الشكّاك في الفترة القديمة، فقد ظهرت هذه الحركة الفلسفيّة مع بيرون، وصيغت مع تيمون وبلغت أوجّها مع أمبريكوس. ويعود إلى تيمون أمر حفظها وإلى أمبريقوس مسألة صياغتها في هيئة مفصّلة يحكمها التّرابط النّسقي الواضح والمتسلسل.
تأتّى للفيلسوف المتأخّر ذلك، نتيجة تلاحق روّاد هذا التيّار وما تبعه من زيادات وتوضيحات وتنقيحات، مثّلت كلّها مادّة ثريّة خوّلت لسكتوس أمبريكوس التّعبير عن فلسفة الشكّاك الأوائل بصورة أوضح، واتّخذ بذلك موضع النّاقد في قراءتها نتيجة فعل التّعديل والحذف والزّيادة الذي ألحقه بنصوص الأسلاف.
ثانيا: في بنية وطبيعة التّفلسف عند الشكّاك في القديم
يُعبِّر فكر الشكّاك عن فعل التّفلسف الأصيل بما هو السّعي إلى البحث في ممكنات العلم بالأشياء والموجودات، ولا يختلف في هذا المستوى نهج الشكّاك عن غيرهم من المذاهب باعتبار التّفلسف في جوهره انعكاس للبحث الدائم عن الحقيقة، لكن يكمن الخلاف أساسا في طبيعة النّتائج المحصّلة عند كلّ شقّ.
ينتهي شقّ الوثوقيين إلى إقرار القدرة على بلوغ الحقّ بيِّنا، ويُعلن شقّ الشكّاك الإخفاق من كل الوجوه بل ويطعن هؤلاء بشدّة في هذا الوثوق. والسّؤال المعلن هنا هو لماذا يقف الشكي دون بلوغ اليقين المعرفي؟ هل يعود ذلك إلى اختلاف في الأدوات المعتمدة أم في هيئات استعمالها؟
تُعتبر الحقيقة عند الشكّي مطلبا لا يتوانى في توظيف كلّ قواه لبلوغه، لكن فضيلة هذا الأمر لا تُبرّر عنده التّسليم السّريع والباتّ في النّتائج، وتقتضي حذرا دائما وتريّثا في الحكم لا ينتهي. ودفع ذلك الشكّي إلى مراجعة جذريّة لبنية وطبيعة المعرفة بشكل عام، ووضع محصّلة فعل العقل تحت المساءلة من كلّ الوجوه؛ فلا يعود فيها موضع للمسلّمات الثّابتة.
وضعت بذلك كل المكتسبات النظريّة بين قوسين، وهو ما جعل الشكّاك في مواجهة مع كل المذاهب الفلسفيّة سواء منها الموجودة أو التي لم توجد بعد، باعتبار عملهم يتّجه بالنّقد إلى أسس التّفلسف ذاتها. فالأمر لا يتّصل بمجرّد مناظرات أو سجالات مباشرة مع غيرهم من الفلاسفة، بل يرتبط بمهمّة تقويض الأصول التي تمنع جواز المعرفة في هيئتها الكلية والصّارمة والواثقة. ويتحوّل هدف الشكّاك من البناء إلى التخلّص من كلّ أنواع الوثوقيّة، وسلب المعرفة يقينها الذي لا يصمد أمام أقصى درجات الشكّ.
يقتضي الإمساك بهذه البنية الفريدة (تؤخذ الفرادة هنا في مقابل التضاد مع كل فلسفة)، المقارنة مع العديد من المذاهب الفلسفيّة، وهو عمل قد تكفّل بإنجازه جملة من المنشغلين بتاريخ الفلسفة ممّن أتينا على ذكر بعضهم في موضع سابق من هذا العمل.[14]
نكتف هنا بتوضيح بعض ملامح فكر الشكّاك الأوائل انطلاقا من تمثّل الخصومات غير المعلنة مع غيرهم من المذاهب.[15] ويمكن تبويب هذه الخصومات إلى صنفين متّصلين، صنف أوّل يتّصل بأداوت المعرفة، وصنف ثان يرتبط بموادّ المعرفة.
- الخصومة المتّصلة بأداة المعرفة
ننبّه في هذا المستوى أنّنا نحيل بالأدوات تحديدا على العقل وذلك لسببين منهجي ومعرفي. يقوم السبب الأوّل على مسايرة التّلاؤم مع طبيعة المشكل الذي نشتغل عليه، وهو النّظر في صورة العقل عند الشكّاك. ويتكوّن السّبب الثّاني أساسا من اختزال المسائل الخلافية بين الشكاك ونظرائهم من فلاسفة الفكر القديم في ما يقدّمه العقل، دون باقي أدوات الإدراك الإنساني من إحساس وتخيّل. ويتمحور المشكل المطروح في التّالي: هل يمكن للعقل تقديم معرفة تتفوّق من جهة النّجاعة والمنزلة على ما تمنحه الحواس؟ وهل يجادل الشكّاك تِباعا حول قيمة العقل في ذاته، أم يعترضون على منحه قدرة ضمان اليقين المطلق؟
اعتلى العقل مكان الصدارة بين الأدوات، واعتُبر الأشرف باعتبار طبيعة وظائفه مقارنة بباقي قوى النّفس. ويُعهد إلى العقل كما هو معلوم أمر التّركيب والتّفصيل والتّحليل والتّفكيك لمجمل الانطباعات الحاصلة عن قوى الحسّ والخيال، ومنها تُستنبط التصورات والتّصديقات التي نملكها عن الموجودات.[16]
وليس المجال مناسبة لتفصيل القول في هذه المشكلات، ولكن حسبنا من عرضها بيان طبيعة هذه التصورات والتصديقات الذهنية في علاقة بالموجود.[17] وتظهر خصوصية العقل هنا في تحصيل العلم بالموجود بنسب متفاوتة الصّدق وفق طبيعة الموجود ذاته. يقول أرسطو متحدثا عن إدراك العقل: ”إذا كان موضوعه الماهية بمعنى حقيقة الشيء، فهو صادق دائما.“[18]
ينتهي بذلك المعلّم الأوّل عند إقرار التّطابق التام بين الماهية والوجود في مستوى التصورات الذهنيّة، وقدرة العقل من ثمّة على إدراك المعاني المجرّدة عن الهيولى.[19] وتمثّل مجمل هذه الأمور مواضع خلاف جوهري مع الشكّاك، وما يعتبر أصولا عند الوثوقيين يفتقد إلى كل صلابة تأسيسيّة عند مخالفيهم. يقول يُوسَابْيُوس القَيْصَرِي (Eusèbe de Césarée) في هذا الاتّجاه ”يكون من الضّروري الانطلاق من الامتحان النّقدي لملكة الإدراك عندنا.“[20]
ينبني فعل العقل على تسلسل منطقي بين عناصر مترابطة بإحكام، وذلك ما يترجم قوّة فعل هذه الملكة. غير أن الشكاك يعتبرونها صرامة داخلية، ملزمة للعقل دون سواه، وعليه لا يصحّ منطقيا إلحاق هذا التسلسل الداخلي والخاص بأشياء خارجة عنه ثمّ نندفع إلى الجزم بيقينها. يُطرح المشكل إذن، عند إلصاق الحاصل الذّهني المجرّد بالأشياء الخارجيّة، ولا يتّصل البتّة بحركة العمليّة الداخليّة للذّهن.
ويرجع أصحاب المذهب البيروني هذه المزالق إلى الخلط بين فعل التمثّل الحسّي للأشياء والذي لا يمكن إنكاره، وبين تأويلنا له بما هو عملية ذهنية خالصة وليس انعكاسا لحقيقة الواقع أو على الأقل لا نملك تأكيد ثبوت واقعيته، ومنه تتأتّى علل وشرعية الشك. يقول سكتوس أمبريقوس في هذا الخصوص:
نقوى على تمثلّ حلاوة العسل ونقبلها باعتبارها صادرة عن الحسّ، لكن نسبة هذه الحلاوة إلى العسل بالذات أمر لا يقترن بالحسّ بل بتمثّلنا للعسل. وحججنا في الاعتراض على هذه التمثلات لا تترجم رفضنا للأشياء الحسية، بل تكشف عن حدود الوثوقيّة.[21]
عمل بذلك شكاك المدرسة اليبرونية على رفع الشرعيّة عن التطابق المزعوم بين التصورات الذهنيّة والظواهر الخارجيّة، وبقي ما نحمله في أذهاننا انعكاس لانطباعاتنا عن الأشياء. وتظلّ من ثمّة، حقائق الموجودات عصيّة عنّا ولا يمكن الجزم بامتلاكها، ورغم النّجاح المُبهر للعقل في التّفكيك والتّفصيل والربط والاستنباط والاستنتاج، لا نقوى بواسطته إلا على إدراك ظواهر الأشياء حسيّا.
وبالجملة، يقوم مذهب بيرون على إسقاط الثّقة في العقل والانتهاء إلى الارتياب في ممكناته، ويعترض بتعبير أدق على غاية تحصيل الحق التي أوكلت إلى هذه الملكة. وعليه لا يتّصل نقده بالوظيفة البحثيّة للعقل، بل بالقدرة التحصيليّة التي نُسبت إليه.[22]
- الخصومة حول موادّ المعرفة
تعتبر الخصومة الثّانية سليلة الأولى، ودحض مواد المعرفة نتيجة ضرورية عن الإطاحة بأسس تحصيلها. وتَختزل هذه الخصومة مجمل اعتراضات الشكّاك على العلوم التي تتّخذ هذه الموادّ موضوعات لها. ووجّه الدّحض أوّلا إلى العلوم الأدوات أو ما يعرف بعلوم الآلة والمراد اللغة والمنطق، وهي التي تَعنينا في هذا المستوى نظرا إلى طابعها الصوري.
نبدأ بعلم المنطق، وينكر بيرون وأتباعه الاعتقاد في صلابة القضايا المنطقيّة، نظرا لانطلاقها من مقدّمات جزئيّة وانتهائها إلى نتائج كلية. ولا يمكن وفق ذلك إقرار صدق هذه القوانين العقليّة والاقتناع بصرامتها والحال أنّها مبنيّة على مبرهنات حاملة لإعدام الصدق وقابلة للشكّ. كما أنّ الضّرورة التي تميّز القضايا المنطقيّة وتعبّر عن قوانين العقل محكومة بالربط بين مسلّمات افترضنا صدقها مسبقا وبين مبرهنات ناتجة عنها، وعليه فمبادئ الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع، والتي أعلنها أرسطو معيارا للحقيقة، لا تملك صلابة كافية أمام افتراض عدم صدقها، وما يؤدّي إليه ذلك من انهيار فعل العقل برمّته.
يقوم منطق الشكاك على قلب بنية المقولة، بمعنى افتراض الانطلاق من مقدمات غير يقينيّة لا نستطيع الجزم بصحتها مثلما لا نقدر على تجاوز إمكان الشك فيها. وتترجم هذه الأرضيّة ارتقاء العقل إلى ممارسة شك منهجي فيه تجاوز لهيئات الارتياب الانطباعي البسيط.[23] اعترض بيرون من جهة أخرى، وفق رواية تلاميذه، على البنية الداخلية للّغة. واعتبر أنّ رابط الضّرورة بين الاسم والمسمّى يحيل وجوبا على ضرب من التّطابق الوهمي، ولا تعبّر الأسماء إلاّ عن بعض الوضعيات والأحوال لا غير، كما تُفلت الأسماء وكذلك التمثلات التي نحملها حولها من ضرورة اللغة.
ولعلّه من العسير تعويض الشّيء بالقول، واختزال كثافة الوجود في وحدات لغويّة، ومحال أيضا نقل الضرورة التي تحكم الموجودات إلى مستوى الكلمات. ونُنوّه في هذا الباب بعمل حمادي بن جاء بالله حول موقف الشّكاك من مسألة اللغة، ونورد ما ذكره عن أصحاب المذهب بخصوص محدوديّة اللغة:
فليس للغة صلة مباشرة بالوجود، بل إنّ بينهما بونا شاسعا لا يطويه تعسّفا إلاّ الوثوقي. إنّنا ندلّ فعلا على الأشياء بالكلمات ولكن الكلمات ليست الجواهر ولا هي الموجودات، وبالتّالي ليست الأشياء هي التي نبلّغها إلى من يستمع إليها وإنّما نبلّغه قولا يختلف عن الجواهر.[24]
تُيسِّر مجمل هذه الاعتراضات حول بنية اللغة تفسير بعض دواعي عزوف بيرون عن الكتابة، وأسباب تفضيله التّعبير عن أفكاره بغير طريق التدوين، بل وميله إلى الصّمت الذي تخيّره على المجادلة. وكلها إشارات تحيل على عقم الأداة وعجزها عن قول حقيقة الوجود. تتحوّل من ثمّة اللغة الشعريّة إلى بديل للتّعبير عن تصورات الشكّاك، والأكثر ملائمة لطبيعة مذهب مضادّ لكلّ وجوه التنميط في استعمال اللغة.
يستجيب القول الشعري إلى مقتضيات الفلسفة الشكيّة، وهو تعبير عن استعمال اللغة في غير سياقها النّظامي وخارج ضوابطها الصّارمة. ويمكّن الشّعر من ترجمة مضامين غير ثابتة اليقين في هيئات أكثر تحرّرا وفي صور غير متناهية وهو ما يتلاءم مع أسس المذهب الرّيبي.[25]
يتّضح من خلال هذا العرض الموجز للخصومات تعامل بيرون الصّارم مع العقل، فقد أخضعه إلى نقد أصيل. وأدّى ذلك إلى رفض كل أشكال الوثوق، وتجاوز وضع الاطمئنان المطلق إلى أداة العقل. يقول سكتوس امبريقوس في هذا الخصوص: ”يتعلّق غرضنا الأقصى ببلوغ تفنيد الوثوقيّة.“[26] لكن ما الذي انتهى إليه بيرون وأتباعه بعد هذا الهدم؟
يسعى الشكّاك إلى تجاوز الوثوقيّة في كلّ وجوهها، سواء باتّجاه إثبات الصّدق أو باتّجاه إثبات النّفي. ويعتمدون الظنّ في صدق الأمر من جهة، ويعلنون احتمال نقيضه من جهة أخرى، وينتهون من ثمّة، عند وضع ”تعليق الحكم (épochè) وهو توقّف الذّهن فلا نملك نفي أو إثبات أيّ شيء.“[27]
نصل إلى عدم الحسم في الحكم لصالح النّفي أو الإثبات نتيجة تكافؤ الأدلّة في المنزلتين. ويتوقّف الذّهن في هذا المستوى عن الجزم وترجيح إقرار مخصوص، ويكون بذلك الذّهن حرّا لأنّه تخلّى عن الانشداد إلى معطى دون آخر.
يتمّ في هذا المرحلة تجاوز لحظة الاضطراب الناتج عن الشك، والانتقال إلى لحظة استقرار وصمت الذّهن، وهو المنعرج الذي يوصل المرتاب إلى مرتبة الأتراكسيا حيث ينال راحة ورضى تام في النّفس.[28]
وتختزل هذه الأطوار عند الشّكاك في التّالي: ”يقول تيمون ندرك أوّلا هدوء النّفس، ثمّ نبلغ الأتراكسيا، ويضيف انسيديموس حصول اللذة، وهذه هي المبادئ الرئيسية لفلسفتهم.“[29]
نخلص في هذا المستوى إلى نتيجتين متّصلتين:
– تقوم بنية فلسفة الشكّاك على النّقد وهو الارتياب التامّ في كل ما نعلمه. ويحيل ذلك على زعزعة صورة العقل الواثق من يقينه ومن علمه بالأشياء، ويعكس أيضا سعيا إلى إعادة بناء هذه الصّورة وفق معايير جديدة تؤكّد أصالة العقل، وبحثا عن مقوّمات معرفة لا يعتريها الشكّ من أيّ وجه.[30]
– لم تفضي إدانة الشكّاك للعقل إلى حلّ معرفي، بل انتهت بهم إلى نتائج من طبيعة عمليّة، وصَاحَب تهافت اليقين المعرفي تأكيد لغاية عمليّة. يصبح الحلّ في تجاوز محنة العقل هو تحريره من إطلاقية الوثوق من جهة، والرّضى باستحالة اليقين من جهة أخرى.
دفعتنا هذه الأمور إلى مواصلة التساؤل حول وثوقية العقل ضمن لحظات لاحقة من تاريخ الفكر الإنساني. فهل نجد في الفلسفة العربية الوسيطة ارتدادا لهذه الصّورة التي عرضها الشكّاك قديما عن العقل؟ وماهي الرواية العربية عن الفكر الفلسفي للشكّاك؟ وكيف تمثّل الفكر الإسلامي الوسيط فلسفة الشكّاك وهو محكوم بإبستيمية مضاعفة الوثوق دينيا وفلسفيّا؟
ثالثا: الرّواية العربيّة لفلسفة الشكّاك
يعسر العثور على آثار ماديّة ظاهرة لأوائل الشكّاك في الفترة الوسيطة، انطلاقا من ندرة المصادر التي أعلنّا عنها في بداية العمل نظرا إلى انصراف بيرون، مؤسّس المذهب، عن فعل التّدوين.[31] ولعلّ ذلك، ما يفسّر شحّ الأنباء حول عمليّة نقل مصادر هذا الفكر الفلسفي اليوناني إلى اللّسان العربي، سواء بطريق التّرجمة، أو في هيئة شروح بيّنة، أو جوامع وملخّصات حوله، ضمن أبرز كتب التّراجم.[32]
وقد تحدّث بعض الباحثين في هذا الخصوص، وبيّنوا ضعف حضور نسق فلسفي واضح لمدرسة الشكّاك في الفكر العربي الوسيط على خلاف غيرها من المدارس الفلسفية كالرواقية والأبيقورية، وتوجد، في هذا الاتجاه، إشارة لطيفة إلى بيرون تحت اسم فورون (Fùrun) ضمن رسالة الفارابي (ت. 339هـ/950م) حول ما يتقدّم تعلّم الفلسفة.[33]
يقول الفارابي في هذه الرّسالة: ”وأما الفرقة المسمّاة من الآراء التي كان يراها أصحابها في الفلسفة فهي الفرقة التي تنسب إلى (فورن) وأصحابه وتسمّى (المانعة) لأنهم يرون منع النّاس من العلم.“[34]
تختصّ هذه الفرقة وفق الفارابي بامتناع المعرفة، لذلك أتى على ذكرها ضمن الباب الأول من الرّسالة وقد اعتنى فيه بعرض الأمور التي نحتاج الإحاطة بها قبل المعرفة، وأوّلها أسماء الفرق التي سبق لها الاشتغال بالفلسفة من جهة واحدة باعتبار فلسفة المعلّم الأول تعبيرا عن المعرفة الحقيقية.[35]
تتّضح بذلك مكانة المانعة أو الشكاك موضع انشغالنا هنا، فهي الفرقة التي لا يقدم أصحابها معرفة، بل تشريعا لاستحالتها، وفق الفارابي. واكتفى لذلك بذكرها على سبيل الاختصار وترتيبها خارج الفلسفة التي وضع أسسها المعلّم الأوّل ضمن الرسالة المذكورة.
وتبقى إشارة الفارابي ضمن ما ينبغي أن يقدّم في تعلّم فلسفة أرسطو غير كافية في الحكم على انشغاله بمذهب الشكّاك من عدمه، ولا يصحّ الجزم بذلك وتعميمه على كامل مصنّفاته. فقد استعمل الفارابي مثلا، لفظ المشكّكة ضمن معرض حديثه عن الحاجة إلى المعاني العاميّة الخاصّة بكلّ أمّة، والسّابقة في مجملها للمعاني الفلسفيّة، التي اعتمدت في صياغتها ألفاظ من جنسها عامة ومشتركة.[36]
وذكر المعلّم الثّاني الشكّاك عند تصحيح الغلط الحاصل والمعمّم حول مصطلح السفسطة، انطلاقا من العودة إلى جذوره اليونانية ليبيّن إحالته تحديدا على التمويه والمغالطة. ولعلّه من المهم هنا الانتباه إلى تمييز الفارابي للسفسطائيين عن القائلين بجحود إمكان المعارف، في إحالة على الفرقة التي تتميز بإنكار المعرفة وتُعرف بالمشكّكة باعتبار نفيها كل قدرة على بلوغ اليقين.[37]
واستعمل في نفس السّياق، لفظ التّحيير الذي يفيد حصول شدّة الحيرة بين اعتقادين متقابلين ومتساويين في البرهنة، يكون الإنسان هنا في وضع تردّد بين الأمر وضدّه، ويصعب عليه بلوغ الحكم الجازم.
والمعلوم، نسبة مجمل هذه الخصوصيات إلى مذهب الشّكاك، غير أن الفارابي أوردها باعتبارها أحد الأغراض المعتمدة في صناعة السفسطة.[38] ويتّضح بذلك أنّ الفكر الشكّي مبثوث خاصّة في ثنايا المصنّفات المنطقية عموما، وتحديدا ضمن الجزء المخصص للمغالطة ونقيض البرهان اليقيني.[39]
استعاد المعلّم الثّاني إذن، إرث الشكّاك، وإن على جهة السّلب، حيث نظر في تصوّرات منكري المعرفة باعتبارها مقابلة للقول اليقيني الثّابت ومعادية ليقين العقل، وقد أشار إلى المذهب في هيئة مضمّنة في عديد المواضع التي أتينا على ذكرها. ويمكن القول انطلاقا من أنموذج المعلّم الثّاني، أن مذهب الشكّاك لم يحظ في الفكر الوسيط بنفس الدّرجة من العناية التي ميّزت غيره من المذاهب المؤسِّسة لوثوق العلم، وتم الاشتغال عليها شرحا وتلخيصا كالأرسطية والأفلاطونيّة.
ونسعى من جهة أخرى، في إطار بحثنا عن ممكنات تأثير الشكّاك في الفترة العربية الوسيطة إلى الوقوف عند بعض تداعيات تصوراتهم خارج الفلسفة، والسعي تحديدا في فهم كيفية توظيف آثارٍ من رؤاهم ضمن العلوم المستحدثة في الملّة كعلم الكلام.
ونعتمد في بيان ذلك على جهة الاختصار، بعض آراء المشتغلين بمذاهب المتكلّمين، ونذكر منهم ما ورد عن ابن حزم الظاهري (ت.456هـ/1064)[40] من قول بيّن فيه حضور فكر الشكّاك عند المتكلّمين، وفق هيئات مختلفة اجتمعت في مجملها على مبدأ الإنكار: ”ذكر من سلف من المتكلّمين أنّهم ثلاثة أصناف: صنف منهم نفى الحقائق جملة. وصنف منهم شكوا فيها. وصنف منهم قالوا هي حقّ عند من هي عنده حقّ، وهي باطل عند من هي عنده باطل. “[41]
اعتُبرت، في هذا الاتّجاه، فلسفةُ الشكّاك ضربا من القول السفسطائي المجاور للحقّ، ولذلك نسب إليهم ابن حزم وغيره ممّن اشتغلوا بالمدوّنة الكلاميّة، صفة إبطال الحقائق وهو ما أخرجهم من دائرة المعرفة على جهة التّحقيق، وامتنع من ثمّة عن الردّ على أقوالهم في بعض ما ذهبوا إليه.[42]
وانتهى ابن حزم عند اعتبار الشكّاك فرقة سفسطة تدّعي المعرفة دون امتلاكها، أو تُبطلها لعدم الوثوق في أدوات إدراكها وهي الحواسّ والعقل. وورد ردّه عليهم من جنس القول السفسطائي القائم على هيئة جدال متناسق ولكنه فارغ من كلّ مضمون مخصوص. يقول ابن حزم في هذا السّياق:
ويُقال للشكّاك منهم أشكّكم موجود صحيح منكم أم غير صحيح ولا موجود، فإن قالوا هو موجود صحيح منّا أثبتوا أيضا حقيقة ما، وإن قالوا غير موجود نفوا الشكّ وأبطلوه، وفي إبطال الشكّ إثبات للحقائق أو القطع على إبطالها.[43]
يكشف هذا القول لابن حزم منزلة الشكّاك في الفترة الوسيطة، فهم من الفِرق المنكرة للحقّ استنادا إلى أدلّة عمادها المجادلة الصوريّة، وأدرج لذلك التّعامل معهم في باب الدّحض والإنكار العام، رغم مناقشة بعض أدلّتهم وإبطالها استنادا إلى الحجج المنطقيّة.[44]
يتّضح من جهة أخرى استعمال بعض الفرق الكلاميّة لقول الشكّاك، والإفادة تحديدا من قولهم بمبدأ تكافؤ الأدلّة. ونحيل في هذا المستوى مثلا على فرقة الباطنيّة، التي تعتمد حيلة التّشكيك في باب التّعليم.
يبدأ أصحاب هذه الفرقة التّشكيك في الحكمة الشرعيّة وخلق العالم والإنسان، وإجمالا زعزعة كل أضرب اليقين العقلي. والانتهاء من ثمّة عند ضرورة عدم التّعويل على الرّأي والأخذ المباشر عن الإمام المعصوم. تتحوّل وظيفة الشك مع الباطنيّة إلى طريق لإرباك يقين الخصم وهو المنهج الذي اختص باستعماله السفسطائيّة، واعتبره أبو حامد محمد الغزالي (ت505هـ/1111م) ”مبدأ ظاهره الرّفض وباطنه الكفر المحض.“[45]
وإجمالا، يمكن القول أنّه قد وقع اعتبار فكر الشكّاك ضمن الفترة العربية الوسيطة، وتوظيف ما ورد فيه لتمييز العلم اليقيني عن كل زيف، واستثمار أطروحاته القائمة على الإنكار في بناء منهج الفكر الواثق. ولعلّ مسار الغزالي يعكس حصول نفع من منهج الشكّاك في مستوى بناء المعرفة، فقد اعتمد منهج الشكّ قصد بلوغ حقيقة أكثر يقينا ومعرفة أكثر وثوقا. وانشغل بتحرير العقل من كل وجوه المعرفة المسبقة المحصّلة بأدوات الحسّ والوقوف عند محدودية العقل باعتبار العلم الحقيقي يقوم على القطع مع كلّ أضرب الشكّ.
يقول الغزالي في وصف طريقه إلى المعرفة: ”فلعلّ وراء إدراك العقل حاكما آخر إذا تجلّى كذب العقل في حكمه، كما تجلّى حاكم العقل فكذب الحسّ في حكمه، وعدم تجلّي ذلك الإدراك لا يدلّ على استحالته. “[46]
لا ينتهي الغزالي إذن إلى إبطال العلم نتيجة نقد العقل، بل أكّد وثوقه بالمعرفة نتيجة إقرار مصدر آخر يتجاوز العقل. ونرى في ذلك اقترابا من المشاهدة العرفانيّة عند ابن سينا، ونسوق هذا الأمر بتحفّظ باعتبار الخصومات الكثيرة القائمة بين الفيلسوفين.
استعمل وفق ذلك الغزالي نهج الشكّاك وخالفهم في طبيعة النّتائج، فحلّهم عمليّ أبقى العلم في وضع الارتياب، وحلّه نظري أثبت فيه العلم بأدوات تتجاوز حدود العقل النّظري. وما يعنينا هنا هو هذا التّشابه بين الغزالي والشكّاك الأوائل في مستوى أصالة فعل النّقد الذي لم يستثني العقل ذاته، وهو عمل يستدعي المقارنة الدّقيقة ويحتاج النّظر فيه إلى مقال مفرد.
خاتمة
اهتزّت صورة العقل مع الشكّاك في تاريخ الفلسفة القديمة، نتيجة إخضاعه إلى نقد جذري شمل الأسس. وتَرجم هذا الفعل سعيا إلى تأسيس عقلانية ثريّة ومعرفة أصيلة، ولم تكن الغاية وفق ذلك، الإطاحة بالعقل بقدر ما كانت تحصيل معرفة يقينية. وقد انتهى الأمر إلى نتائج من طبيعة خلقية تفيد التشبث بسكينة اللايقين.
وظهرت تداعيات هذه الرجّة لمتانة العقل داخل الفكر الوسيط في هيئات مختلفة تراوحت إجمالا بين التضمّن المستتر والرّفض الخفي والمعلن.
فقد ضُمّنت هذه الفلسفة في سياقات كلاميّة بالخصوص، لكنّها رُفضت فلسفيّا نتيجة ردّها إلى السفسطائيّة، وما يحيل عليه ذلك من ضرورة مقاومة تأثيراتها السلبية على يقينية المعرفة. واعتبرت لذلك مالكة لهيئة قياس فاسد أوجب مقاومتها، من خلال العمل على إثبات تهافت أسسها.
ويعود هذا الصدّ برأينا إلى وجود وثوقيّة مضاعفة للعقل والدين هيمنت على الفكر الإسلامي الوسيط، ولعلّ هذه السّياقات المليّة كانت دافعا أيضا للتوجّه نحو الاشتغال بالإرث اليوناني الواثق من العقل دون غيره، باعتباره يعزّز الدّفاع عن مضامين الشّريعة الإسلاميّة.
Bibliography
Arisṭū. Kitāb al-Nafs. Edited by Aḥmed Fuʾād al-Ahwānī, Cairo: Dār Iḥyāʾ al-Kutub al-ʿArbīyyā, 1962.
Auroux, Sylvain (dr.). Dictionnaire les Notions Philosophiques, Paris: Presses Universitaires De France, 1990.
Brochard, Victor. Les Sceptiques grecs, Paris : J. Vrin, 1981.
Cossutta, Frédéric. Le Scepticisme, Paris : Presses Universitaires De France, 1994.
al-Fārābī, Muḥammad Abū-Naṣr. Kitāb al-Ḥurūf, Edited by Muḥsin Mahdī, Beirut: Dār al-Mashriq, 1990.
———-. Falsafat Arisṭūṭālīs wa-marātib Ajzāʾihā wālmūḍʿal-ḏī Minhu Ibtdʾa wa-yalīhi Intahā. Edited by Muḥsin Mahdī, Beirut: Dār Majallat Shiʿr, 1961.
———-. Kitāb sharāʾiṭ- al-Yaqīn, Edited by Mājid Fakẖrī, Beirut: Dār al-Mashriq, 1987.
———-. Mabādiʾ al-Falsafat al-Qadīmā, Mā-yanbaġī an yqaddama qabl taʿlŭm falsaft Arisṭū, ʿuyūn al-masāʾil fī-al-manṭiq wa-mabādiʾ al-falsafā. Cairo: al-Maktabā al-Salafiyya-Maṭbaʿat-al-Muʾīd, 1910.
al-Ghazālī, Abū Ḥāmid. Faḍāʾiḥ al-Bāṭinīyya. Edited by ʿAbd al-Raḥmān Badāwī, Kuwait: Muʾassasat Dār al-Kuwayt al-Thaqāfīyya, 1969.
———-. al-Munqiḏ Mina al-Dalāl. Edited by KāmilʿAyyād. Damascus: 1934.
Ibn al-Nadīm. al-Fihrist, Edited by Yūsuf ʿAlī al-Ṭawīl, Beirut: Dār al-Kutub al-ʿIlmiyyah, 1996.
Ibn Hazm, Muḥammmad. al-fiṣl fīʾl-Ahwāʾwāʾl-Milal wāʾl-Niḥal. Edited by ʿAlī Ṣabīḥ. Cairo: Maktabat al-Salām al-ʿĀlamiyyah, 1348.
Ibn Jāʾa Billāh, Ḥammādī. “al-Raybiyyah.” In al-Mawsūʿah al-falsafiyyah al-ʿarabiyyah, edited by MaʿanZiyādah. Volume 2. Beirut: Maʿhad al-Inmāʾ al-ʿArabī, 1986.
Ibn Rushd, Muhāmmad. Talẖīṣ kitāb al-Nafs, Edited by Aḥmad Fuʾād al-Ahwānī. Cairo: Maktabat al-Nahḍa al-Maṣriyya, 1950.
Ibn-Manẓūr, Jamāl-al-Dīn. Lisān al-ʿarāb. Edited by Khālid Rashīd al-Qāḍī. Beirut: Dār-Ṣubḥ, 2006.
Tahānawy, Muḥammmad ʿAlī. Mawsūaʿt Kashāf Iṣṭilāḥāt al-Fūnūn wa-lʿūlūm. Edited by ʿAlī Daḥdūḥ, Beirut: Maktabt Lubnān Nāshirūn, 1996.
Van Ess, Josef. “skepticism in Islamic religious thought.” In God and Man in Contemporary Islamic thought, edited by Charles Malik, Proceedings of the philosophy symposium held at the American university of Beirut, 6-10 February 1967, 83-98. Beirut: Centennial Publications, 1972.
Zaqzūq, Maḥamūd. “al-Shakk al-Manhajī ʿinda al-Ghazālī wa dīkārt waʾahamīyatuh Fī-taʾsīs falsafatayhimā,” ʿĀlm al-Fikr, Volume 4. N. 3, 1973.
للتوثيق
جويني، سعاد. ”صورة العقل عند الشكّاك بين القديم والوسيط.“ ضمن موقع الفلسفة والعلوم في السياقات الإسلامية، الرابط <https://philosmus.org/archives/3761>
سعاد جويني
[1] نشير هنا من باب الذكر لا الحصر إلى عمل:
Victor Brochard, Les sceptiques grecs (Paris: J. Vrin, 1981).
ووردت الإشارة إلى ندرة المصادر في الصفحة 40.
[2] بالإضافة إلى المرجع المذكور في الهامش السابق يمكن العودة أيضا إلى:
Frédéric Cossutta, Le scepticisme (Paris: P.U.F, 1994).
[3] Jean-Paul Dumont, Éléments d’histoire de la philosophie antique (Paris: Ed. Nathan, 1993) 641- 677.
[4] نجد هذه التدقيقات اللفظية في لسان العرب، ابن منظور، ضبط نصّه وحواشيه، خالد رشيد القاضي، ط.1(بيروت: دار صبح، 2006)، مادّتي رَيب وشكك. ونحيل أيضا على محمّد علي التّهانوي، موسوعة كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تحقيق علي دحدوح، إشراف رفيق العجم، ط.1(بيروت: مكتبة لبنان ،1996)، ج.1، مادة الشك. واستعمل حمادي بن جاء بالله مصطلح الريبية في مقاله عن فلسفة الشكاك، ”الريبيّة،“ ضمن الموسوعة الفلسفيّة العربيّة، ط.1(بيروت: معهد الإنماء العربي، 1988)، ج.2، 688.
[5] عد في هذا السّياق إلى هذه المواضع:
Sylvain Auroux (dr.), Dictionnaire les Notions philosophiques (Paris: P.U.F, 1990), matière «Scepticisme,» T.2, 2309-2310.
الموسوعة الفلسفيّة العربيّة، ط.1(بيروت: معهد الإنماء العربي، 1986)، مادّة شكّ، ج.1، 523؛ حمادي بن جاء بالله، ”الريبيّة،“ ضمن الموسوعة الفلسفيّة العربيّة، ج2، 668.
Brochard, Les sceptiques, 40- 60 ; Cossutta, Le scepticisme, 9, 10, 28.
[6] ولد في حدود 365 ق م. وذكرت سيرته الذاتية باقتضاب في عديد المصادر والمراجع ومنها ما ورد في:
Notions philosophiques, Pyrrhonisme, T.2, 2129-2130.
[7] تشير الدراسات إلى أنّ أبيقور أشاد بفلسفة بيرون وهو من معاصريه، عد هنا مثلا إلى:
Cossutta, Le scepticisme, 28.
ونجد تجاهلا من سيسيرون للأسس المعرفيّة للشكّ البيروني مثلما ورد في كتاب:
Brochard, Les sceptiques, 60.
[8] عاش بين سنتي(235-325 ق م)، عد في هذا الشّأن مثلا إلى: Dumont, Éléments d’histoire, 28
[9] نجد تفسيرا لعزوف بيرون عن الكتابة يلخّص في تجنّب الريبي مخاطرة الدّفاع عن مواقفه في مقال بن جاء بالله،
”الريبيّة،“ ضمنالموسوعة الفلسفيّة العربيّة، 671.
[10]ورد الحديث عن الدور التاريخي لتيمون ومصنّفاته حول المذهب الشكّي في الكثير من المواضع ونورد هنا ما ذكر عند: Cossutta, Le scepticisme, 58-60.
[11] تقلّ الإشارات عن حياة انسيديموس ومنها تواريخ الميلاد والوفاة ، نجد إحالة على ذلك في المرجع السابق، 78.
[12]ينقسم الشكّاك وفق المؤّرخين إلى القدماء والمحدثين بتوسّط ما سمّي بالأكاديميين الجدد. ورد هذا التقسيم للشكاك ضمن Notions philosophiques، ج.2، مادّة Pyrrhonisme، 2129. ويعترض Brochardعلى هذا التّقسيم بالنّظر إلى مناقضته لما ورد في النصوص، ويقدّم تقسيما آخر بحسب طبيعة الموضوعات المميّزة لكلّ حقبة، انظر في كتابه:
Les sceptiques grecs, 35-37.
[13] ينتمي سكتوس أمبريقوس إلى الشكّاك المتأخّرين ولعلّ ذلك ما يفسّر توفّر مؤلّفاته مقارنة بمصنّفات الشكّاك الأوائل التي بلغتنا في غالبها مبتورة، والملاحظ هنا غياب تحديدات دقيقة عن حياة أمبريقوس رغم ترك إرث فلسفي مكتوب. ونشير إلى إمكان الإفادة في هذا الخصوص من كتاب: 92-94. Cossutta, Le scepticisme,
[14] انظر تحديدا إلى ما ورد في هذا المقال، ”صورة العقل عند الشكاك.“
[15] تحيل الخصومة في لغة العرب على الجدل الحاصل بين خصمين، وهو ما لا ينطبق على الشكّاك الذين لا يتعمّدون الجدال بل ويتجنبوه بخلاف السفسطائيين الذين يطلبونه. عد في هذا الشّأن إلى لسان العرب، مادّة خَصَم، ويتّضح من خلال العودة إلى كشّاف اصطلاحات الفنون، مادّة سفسطة، أن السفسطائية مذهب فلسفي يقوم إجمالا على إنكار الحقائق الثابتة. ونقف في هذا المصدر على انقسام السفسطائية إلى فرق، ومنها فرقة اللأدرية التي تعتمد الشك في إبطال العلم وهو ما يحيل على اعتماد بعض مبادئ الشكاك، وفرقة تؤثر العناد والغلط والتمويه وهي التي عرفت نسبتها إلى السفسطائيين. وعد في نفس السياق إلى الموسوعة الفلسفيّة، مادة سفسطائية. ونجد هذا التقسيم للسفطائية إلى فرق الاأدرية والعنادية والعندية في كتاب فخر الدين الرازي، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلّمين، تقديم وتعليق سميح دغيم (بيروت: دار الفكر اللبناني، 1992)، 40. وانظر كذلك في مقدمة كتاب: 17.-12 Les sceptiques grecs, Brochard,
[16] نجد هذا التّرتيب في القوى وتميّز العقل بينها عند أرسطو في، كتاب النّفس، نقله إلى العربيّة أحمد فؤاد الأهواني، راجعه عن اليونانية، الأب قنواتي، ط.2 (القاهرة: دار إحياء الكتب العربيّة، 1962)، 108-109.
[17] تنتمي مصطلحات التصور والتصديق إلى المنطق، ”فالتصديق التام هو اليقين، والتصوّر التامّ هو تصوّر الشّيء بما يلخّص ذاته بنحو ما يخصّه، وذلك أن يتصوّر الشيء بما يدلّ عليه حدّه.“ الفارابي، كتاب البرهان، تحقيق ماجد فخري (بيروت: دار المشرق، 1987)، 20.
[18] أرسطو، كتاب النّفس، 116.
[19] يمكن الإفادة بخصوص الفعل الخاص بالعقل من قول ابن رشد في القوّة النّاطقة ضمن، تلخيص كتاب النّفس، تحقيق أحمد فؤاد الأهواني (القاهرة: مكتبة النهضة المصريّة، 1950)، 76-77.
[20] يقول عنه Dumont في كتابه Éléments d’histoire أنّه من آباء الكنيسة وعاش في حدود 313 ق م، نقل أهم ما ورد عن تيمون ومعلّمه بيرون بوساطة أرسطوكلاوس، عد تحديدا إلى 645.
[21] ورد هذا النصّ لسكتوس أمبريقوس في كتاب:Dumont, Éléments d’histoire, 649.
[22] نشير إلى بيرون باعتباره مؤسس مذهب الشكاك قديما دون وجود نصوص تحيل على فلسفته، ولكن أفكاره ترددت على ألسنة تلاميذه من تيمون إلى سكتوس أمبريقوس كما ذكرنا في القسم الأوّل من العمل.
[23] عد في هذا المستوى إلى تعليق Cossutta، ضمن كتابه، , 45 Le scepticisme
[24] عد إلى مقال ”الريبيّة“ ضمن الموسوعة الفلسفيّة العربيّة، 673. وتظهر خصوصيّة هذه الدّراسة وفق ما نرى في توضيح بعض قراءات الفلسفة الحديثة للفكر الرّيبي، على غرار تصوّر هيقل لتاريخيّة مسألة اللغة.
[25] انظر في هذا الخصوص ما ورد عند32,35 Cossutta, Le scepticisme,
[26] Sextus Empiricus, Hypotyposes, I, 12، ورد ضمن كتابDumont, Éléments d’histoire, 648-650.
[27] I, 8 Sextus Empiricus, Hypotyposes, ذكر في كتابDumont, Éléments d’histoire, 648.
[28] يفيد مصطلح الأتراكسيا السكينة والطمأنينة التي تترجم حال السعادة التامة، وهي غاية التفلسف عند الكثير من المذاهب الفسلفية اليونانية كالشكاك والرواقية والأبيقورية. يمكن العودة في هذا الصدد إلى جلال الدين سعيّد، معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية (تونس: دار الجنوب للنشر، 2004)، 16.
[29] ونعرض التّرجمة الفرنسية للنصّ:
“Pour peu que nous connaissions ces dispositions, nous connaitrons, dit, Timon, d’abord l’aphasie, puis l’ataraxie, et, dit Aenésidème, le plaisir. Telles sont les principales têtes de chapitres de leur philosophie.” Eusèbe, Préparation évangélique, cité par Dumont, Éléments d’histoire, 645-646.
ونجد كذلك نصا لسكتوس أمبريقوس حول تعريف تعليق الحكم والغاية الأخلاقية من بلوغه عند الشكّاك، ضمن نفس المرجع، 651.
[30] يمكن الإفادة في هذا المستوى من تعريف حمادي بن جاء بالله للفلسفة”الريبيّة،“ ضمن الموسوعة الفلسفيّة العربيّة، 668.
[31] عد إلى القسم الأول من هذا المقال والذي عنوناه بالإرث المادي للشكّاك.
[32] ذكر ابن النّديم أنّ أوّل من تكلّم في الفلسفة بوثاغورس وسقراطيس، ثمّ أتى على ذكر أفلاطون وأرسطو، وتغيب عنده الإشارة إلى مدرسة الشكّاك في الفكر اليوناني القديم. الفهرست، ضبطه وشرحه وعلق عليه يوسف علي الطويل، وضع فهارسه أحمد شمس الدين (بيروت: دار الكتب العلميّة، 1996).
[33] نذكر مثلا دراسة فان إس التي أحال فيها على وجود إشارة عند الفارابي عن الشكّاك، وبيّن أيضا تردّد أصداء عن رؤاهم عند بعض المتكلمين والأدباء:
Josef Van Ess, “skepticism in Islamic religious thought,” in God and Man in Contemporary Islamic thought, ed. Charles Malik, Proceedings of the philosophy symposium held at the American university of Beirut, 6-10 February 1967 (Beirut: Centennial Publications 1972), 85.
[34] أبو نصر محمدالفارابي، مبادئ الفلسفة القديمة، مجموعة فيها كتاب، ما ينبغي أن يقدّم قبل تعلّم فلسفة أرسطو، وكتاب عيون المسائل في المنطق ومبادئ الفلسفة، عنيت بتصحيحه ونشره المكتبة السلفية (القاهرة: مطبعة المؤيد، 1910)، 4.
ونرى أنّ هذه الإشارة غير كافية لإثبات اهتمام الفارابي في هذا الموضع بالمدرسة الشكيّة، فقد وردت عنده في إطار عرض مختصر لتاريخ الفكر السابق لأرسطو.
[35] يقول الفارابي في مفتتح رسالة ما ينبغي أن يقدّم قبل تعلّم فلسفة أرسطو: ”الأشياء التي يحتاج في تعلمها ومعرفتها قبل تعلم الفلسفة التي أخذت عن أرسطو.“ يختزل العلم إذن في فلسفة أرسطو، وهي ترجمة للمعرفة الحقيقية والتامة في وجوهها المختلفة.
([36])أتى الفارابي على أصناف المعاني، وذكر أنّ منها المغلّطة ومنها العاميّة، وتقال بألفاظ وأسماء شبيهة بالمعاني الفلسفيّة، وتحتاج إليها كلّ أمّة في التّعليم السّابق لتعلّم الفلسفة، يقول: ”وهذه غير المتّفقة أسماؤها وغير المتواطئة أسماؤها وهي متوسّطة بينهما وقد تسمّى المشكّكة أسماؤها.“ كتاب الحروف، تحقيق محسن مهدي، ط.2 (بيروت: دار المشرق، 1990)، 161. وليس في قول الفارابي ما يحيل على مذهب الشكّاك رغم اعتماد لفظ المشكّكة.
[37] يقول الفارابي في تعريف السفسطائي: ”وكلّ من اقتنى القدرة على استعمال ما يُظنّ به بسبب ذلك أنّه ذو حكمة وذو علم من غير أن يكون كذلك بالحقيقة فهو يسمّى السُوفسطَاي. وكثير ممّا لا يعرف هذا الاسم فيظن أن سوفسطاي لقب رجل أنشأ مذهبا ما ونسب من ذهب ذلك المذهب إليه. وظن آخرون أن هذه النّسبة إنّما تلحق من جحد المعارف، وليس واحد من هذين الظنين حقا.“ الألفاظ المستعملة في المنطق، تحقيق محسن مهدي، ط.2 (بيروت: دار المشرق، 1968)، 105.
[38] يذكر الفارابي أن الصّناعة السفسطائية غرضها في المخاطبة ستة أشياء منها التّحيير، ”وهو أن ينقل ذهنه من أحدهما إلى الآخر ومن الآخر إلى الأول ومن الأول إلى الآخر حتى يتساوى القولان اللذان يلتزمان كِلا المتقابلين في القوة، وحينئذ تعرض حيرة. “فلسفة أرسطوطاليس ومراتب أجزائها والموضع الذي منه ابتدأ وإليه انتهى، تحقيق محسن مهدي (بيروت: دار مجلة شعر، 1961): 81.
[39] يمكن العودة في هذا الخصوص مثلا إلى كتاب شرائط اليقين، وفيه أتى الفارابي على حدود العناد في إزالة العلم حين تتوفر الشروط اللازمة لليقين، تحقيق ماجد فخري (بيروت: منشورات دار المشرق، 1987)، 103-104.
[40] ابن حزم الظّاهري الأندلسي، المولود بقرطبة (384هـ – 456هـ)، انظر بخصوص سيرته إلى مفتتح كتاب الفِصل في الأهواء والملل والنِّحل، تحقيق محمد علي صبيح (القاهرة: مكتبة السلام العالميّة، 1348)، ج. 1: 3.
[41] كتاب الفِصل في الأهواء..، ضمن باب الكلام على أهل القسم الأول، وهم مبطلو الحقائق وهم السفسطائيّة، ج.1: 14.
[42] نذكر ممّن عرض لآراء المتكلمّين وحججهم فخر الدين الرازي، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلّمين.
[43] كتاب الفِصل في الأهواء..، ضمن باب الكلام على أهل القسم الأول، وهم مبطلو الحقائق وهم السفسطائيّة، ج.1، 14.
[44] ورد كذلك في كتاب المحصّل حول كيفية الرد على لا تناهي منهج الشك عندهم: ”واعلم أنّ الاشتغال بالجواب على هذه الشبهة يحصل غرضهم على ما قرّروه في كلماتهم، فالصواب أن لا نشتغل بالجواب عنها.“ 37.
[45] الغزالي أبو حامد، فضائح الباطنية، حققه وقدم له عبد الرحمان بدوي (الكويت: مؤسسة دار الكويت الثقافيّة، 1969)، 37.
[46] الغزالي، المنقذ من الضّلال، تحقيق كامل عياد، (دمشق: 1934)، 72. ويمكن الإفادة بخصوص بنية المنهج عند الغزالي من مقال محمود زقزوق، ”الشك المنهجي عند الغزالي وديكارت وأهميته في تأسيس فلسفتيهما،“ عالم الفكر، المجلد الرابع، ع3 (1973): 205-250.
مقالات ذات صلة
الإسهام الإصلاحي في الفلك لجابر بن أفلح الإشبيلي: موقع كوكبي الزهرة وعطارد نموذجًا
The Reformist Contribution of Jābir ibn Aflaḥ al-Ishbīlī to Astronomy: Venus and Mercury as a Case Study al-Ishām al-iṣlāḥī fī al-falak li-Jābir b. Aflaḥ al-Ishbīlī: Mawqiʿ kawkabay al-Zuhra wa-ʿUṭārid namūdhajan الإسهام الإصلاحي في الفلك لجابر بن أفلح الإشبيلي:موقع...
مفهوم البراديغم من خلال فلك ابن الهيثم
The Concept of Paradigm in Ibn al-Haytham's Astronomy Mafhūm al-Parādīghm min khilāl falak Ibn al-Ḥaytham مفهوم البراديغم من خلال فلك ابن الهيثم فتاح مكاويFatah Mekkaoui جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاسSidi Mohamed Ben Abdellah University, Fez الملخص: يعتبر...
في مشروعية الكلام السني ضدا على إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي (ت.505هـ/1111م): قطعة من موسوعة الأسرار والعبر لأبي بكر الطرطوشي (ت.520هـ/1126م)، تعريفٌ وتوصيف
On the Legitimacy of Sunni Theology against Abū Ḥāmid al-Ghazālī’s Iḥyāʾ ʿUlūm al-Dīn (d. 505/1111): A Section from Abū Bakr al-Ṭurṭūshī’s al-Asrār wa-l-ʿIbar (d. 520/1126) - Introduction and Description Fī Mashrūʿiyyat al-Kalām al-Sunnī Ḍiddan ʿalā Iḥyāʾ ʿUlūm al-Dīn...
منهج الغزالي في التأليف في علم المنطق
Al-Ghazālī’s Methodology in His Writings on Logic Manhaj al-Ghazālī fī al-Taʾlīf fī ʿIlm al-Manṭiq منهج الغزالي في التأليف في علم المنطق محمد رويMohamed Roui جامعة عبد الملك السعديUniversité Abdelmalek Essaadi ملخص: تتناول هذه الدراسة معالم منهج أبي حامد الغزالي...
المنطق في الحضارة الإسلاميّة
المنطق في الحضارة الإسلاميّة خالد الرويهبKhaled El-Rouayheb جامعة هارفارد-كمبريدجHarvard University-Cambridge ملخص: ”المنطق في الحضارة الإسلامية“ لخالد الرويهب (جامعة هارفارد بكمبريدج) هي في الأصل محاضرة بالعربية ألقيت في مؤسسة البحث في الفلسفة العلوم في...
مكانة ”الالتباس“ في الثقافة العربية الإسلامية في عصرها الكلاسيكي: بواكير منظور جديد
Navigating Ambiguity: Exploring the Role of Uncertainty in the Classical Arab-Islamic Culture Makānat Al-Iltibās fī al-Thaqāfah al- ʿArabiyya al-Islāmiya Fī ʿAṣrihā al-Klāsīkī:Bawākīr Manẓūr Jadīd مكانة ”الالتباس“ في الثقافة العربية الإسلامية في عصرها الكلاسيكي بواكير...
أثر فلسفة ابن رشد في الكلام الأشعري المغربي: دراسة في المنجز حول فكر أبي الحجاج يوسف المكلاتي (ت.626هـ/1229م)
The Impact of Ibn Rushd's (Averroes’) Philosophy on Maghribi Ashʿarī KalāmCurrent State of Studies on al-Miklātī (d.626/1229) Athar Falsafat Ibn Rushd fī al-Kalām al-Ashʿarī al-Maghribī: Dirāsa fī al-Munajaz ḥawl Fikr Abī al-Hajjāj Yusuf al-Miklatī (626/1229) Majda...
في مقاربة فلسفة الفعل عند الفخر الرازي: مراجعة نقدية لمقالة ”فلسفة الفعل ونظرية العادة التاريخية عند المتكلمين“
On the Approach to the Philosophy of Action in Fakhr al-Dīn al-Rāzī:A Critical Review of “Falsafat al-fiʿl wa-naẓarīyyat al-ʿādah al-tārīkhīyyah ʿinda al-mutakallimīn” Fī muqārabah Falsafat al-fiʿl ʿinda Fakhr al-Dīn al-Rāzī:Murājaʿat naqdīyyah li-maqālat “Falsafat...
أبو البركات البغدادي ومشكل الزمان
Abū al-Barakāt al-Baghdādī on The Problem of Time Abū al-Barakāt al-Baghdādī wa Mushkil al-Zamān Jalel DridiUniversity of Tunis, Tunis أبو البركات البغدادي ومشكل الزمان جلال الدريديجامعة تونس، تونس Abstract׃ The approach adopted by Abū al-Barakāt al-Baghdādī...
مشروعية النظر العقلي في تقرير العقائد عند المتكلمين: فخر الدين الرازي نموذجًا
Machrūʿiyat al-naẓar al-ʿaqlī fī taqrīri al-ʿaqāʾid ʿinda al-mūtakalimīn:fakhr al-Dīne al-Rāzī namūdhajan The legitimacy of Speculated Reasoning from the Perspective of Fakhr al-Dīne al-Rāzī مشروعية النظر العقلي في تقرير العقائد عند المتكلّمين: فخر الدين الرازي...