أبو البركات البغدادي ومشكل الزمان
Abū al-Barakāt al-Baghdādī on The Problem of Time
Abū al-Barakāt al-Baghdādī wa Mushkil al-Zamān
Jalel Dridi
University of Tunis, Tunis
أبو البركات البغدادي ومشكل الزمان
جلال الدريدي
جامعة تونس، تونس
Abstract׃ The approach adopted by Abū al-Barakāt al-Baghdādī (560/1165) about the reality of time and its relationship to the soul and existence makes this perception of him—especially when placed in its theoretical context, the environment that embraced it and the distinctive ontology of that era—almost unique and not identical to any of the prevailing perceptions and different from the conclusions reached by Aristotelianism, Platonicism, and Neoplatonism alike, as well as from theses that were consciously linked to the ontology of Islam and Islamic narratives. The reason lying behind this is that the theoretical conflict connected with the modality of life existence is no longer, according to our philosopher world, a mere logical conflict related to the art of reasoning or to the ways of examining universals and their sequels so as to defend theological utterances as well as religious beliefs as it is the case of some theologians of Islam and those familiar with the etiquette of debating and verbal debate.Besides, this conflict shouldn’t be viewed as a mere topic of the subject of physics since it is self-concomitant with all implications of motion, number and proportion. Rather, it is at its core a metaphysical conflict related to the re-establishment of the ontology of existence and the task of establishing this existence, and the pattern of that establishment by rethinking time in terms of its existence, what it is, and what it connects to the soul and existence, to place it thus in the center of human thinking and at the heart of philosophical concern as it represents the first necessity for understanding the problematic of existence.
Keywords׃ Time, quiddity of time, place, existence, soul, intuition, movement, feelings.
ملخص: إنّ الصيغة التي انتهى إليها ابن ملكا أبو البركات البغدادي (ت.560هـ/1165م) حول حقيقة الزمان وعلاقته بالنفس وبالوجود تجعل تصوّره هذا—خصوصا عند وضعه في سياقه النظري والبيئة التي احتضنته والأنطولوجيا المميّزة لذلك العصر—يكاد يكون متفرّدا وغير مطابق لأيّ من التّصوّرات السائدة، ومختلفا عن النّتائج التي انتهت إليها الأرسطيّة والأفلاطونيّة والأفلاطونيّة المحدثة على حدّ سواء، وكذلك عن الأطروحات التي تمّ ربطها عن وعي بأنطولوجيا الإسلام والسرديّات الإسلاميّة. والسبب في ذلك أنّ الخلاف النّظري المتعلّق بنمط وجود الزمان لم يعد مع عالمنا الفيلسوف مجرّد خلاف منطقي يتعلّق بفنّ الاستدلال أو بطرق فحص الكليّات ولواحق تلك الكليّات من أجل الدفاع عن المقولات الكلاميّة والعقائد الدينيّة كما هو الشأن عند بعض متكلّمي الإسلام والعارفين بآداب المناظرة والجدل الكلامي، ولا أيضا باعتباره مجرّد مبحث من مباحث الفيزيقا لأنّه اللاّزم الذاتي لمعاني الحركة والتغيّر والعدد والمقدار، بل هو في صميمه خلاف ميتافيزيقي يتعلّق بإعادة تأسيس أنطولوجيا الوجود وبمهمّة تأسيس هذا الوجود، ونمط ذلك التّأسيس، عبر إعادة التّفكير في الزمان من حيث وجوده وماهيته وما يصله بالنفس والوجود، ليضعه بذلك في مركز التّفكير الإنساني وفي صميم الاهتمام الفلسفي باعتباره يمثّل اللاّزم الأوّلى لفهم إشكاليّة الوجود.
كلمات مفاتيح: الزمان، ماهية الزمان، المكان، الوجود، النفس، الحدس، الحركة، الشعور.
مقدّمة
إذا كنّا نعرف اهتمام البغدادي بأرسطو (384 ق.م/322 ق.م) وبسفره الرئيسي الطبيعة خاصّة،[1] وكذلك بابن سينا (ت. 427هـ/ 1037م) وأطروحاته، وبالتحديد الفصول الأٍربعة الأخيرة من المقالة الثانية من السماع الطبيعي[2]، فإنّ ذلك لا يعني قبولا غير مشروط بحجج المعلّم الأوّل وتحليلات الشيخ الرئيس وشروحاته؛ بل لعلّ في فصل الزمان عن مباحث الفيزيائيين وعلوم الطبيعة ما يُفيد أن عالمنا الفيلسوف لم يتطرّق إلى مفهوم الزمان في الجزء الثاني من العلم الطبيعي من الكتاب المعتبر في الحكمة الإلهية[3] إلاّ من أجل إبراز فساد قول كلّ من يختزل الزمان في الحركة ويجعله يدور في فلكها، أي تهافت كلّ من يقول: إنّ الزمان هو مقدار الحركة؛ ولذلك نجد البغدادي يتوجّه بالمسألة جهة الميتافيزيقا في الجزء الثالث والأخير من كتاب المعتبر، حيث نجد أعمق الصفحات التي كتبها عن الزمان وأكثرها استشكالا. وباستطاعتنا منذ الآن، وكنتيجة لهذا الوضع الجديد، طرح الإشكاليّات التّالية: ما الذي حرّك البغدادي لإعادة النّظر في مسألة الزمان؟ وما الّذي سعى إلى تنسيبه أو نقضه في التصوّر المشّائي؟ أو بعبارة أخرى: هل ثمّة فرق فلسفي حقيقي بين زمان فيزيقي وزمان ميتافيزيقي؟ وإذا صحّ بأنّ اختزال الزمان ضمن العلم الطبيعي ومعطيات التجربة المباشرة من شأنه أن يفقده الوجه الذي يليق به،[4] فأين يتنزّل تصوّر صاحب المعتبر ضمن المقاربات التي انشغلت بمعالجة مسألة الـ ”زمان“؟ وما هو الوجه الذي يليق بهذا العلم؟
أوّلا: في الوجه الذي يليق بالزمان
إنّ الخصائص التي حدّد بها أبو البركات البغدادي لمفهوم الزمان تذهب جميعها في اتّجاه تأكيد هذا الضرب من النظر الفكري الملتزم بتجاوز أصول النّظر المتعارفة والمعرفة الحسيّة المباشرة،[5] ذلك أنّ الزمان —في ذاته—لا يقع في دائرة الحواس وآلاتها. والحسّ وإن أمكن أن يقدّر الحركة—ولو في بعض وجوهها—إلاّ أنّه يعجز عجزا تامّا عن تقدير الزمان وحصره وتحديده. وعلى ذلك، ليس الزمان ممّا يدرك بالحواس ”إذ لم يكن لونا فيدركه البصر ولا صوتا فيدركه السمع ولا صلابة ولا لينا فيدركه اللمس.“[6] وبهذا، يخرج الزمان عن حدود أنطولوجيا الطبيعة والمعرفة الحسيّة لأنّه يتعالى عن وسائلها وطبيعتها.
والذي يعنينا ممّا ألمعنا إليه، أنّه إذا كانت الأطروحة الأرسطيّة والتقليد المشّائي عموما يشترطان في الحركة أن تكون في مسافة—أي في مكان—ومع زمان يقدّر هذه الحركة أو يعدّها بحسب المتقدّم والمتأخّر، من حيث القبل والبعد. فإنّ المجال الصحيح لدراسة الزمان—فيما يرى أرسطو—هو المجال الطبيعي؛ ذلك أنّ الزمان موجود في الحركة ولا يجوز قوامه دونها، فالزمان هو مقولة تلي المكان والأين والمتى في منطق أرسطو، وعلى ذلك، فإنّ الذي لا يتصوّر حركة لا يتصوّر زمانا. وبهذا المعنى، فإنّ دراسة الزمان تتنزّل في صميم المسائل الفيزيقية.[7] وأشدّ المفاهيم الطبيعية التصاقا بمعني الزمان هما الحركة والتغيّر، أو ما يعرض لذاته قبل وبعد. في حين أنّ النقطة المفصلية التي ستكون في ميزان تفكير البغدادي في هذا السياق المخصوص، هي تأمين الوصل بين الزمان والمعارف الأولى. ومن أجل ذلك مال فيلسوفنا بالزمان كلّه وانحاز به إلى جانب النفس حين ربطه ربطا وثيقا بمعطيات ذلك الشعور التلقائي المنبثق منها. وفي ذلك ما يفيد أنّ البغدادي إذ يطرح مسألة التّمييز بين الزمان والحركة في القسم الفيزيقي، فذلك من أجل فصم القرابة الحميمة بين هذين المعنيين. هذا دون أن ننسى النتيجة الأهم، وهي أن بحث مسألة الزمان ينبغي أن يؤدّي مباشرة إلى صلب مبحث الميتافيزيقا، هذه الميتافيزيقا،[8] التي ستسمح بتجسير العلاقة بين الزمان والوجود، وبالتالي إلغاء الفرق بين جملة من المعاني كالزمان والدهر والسرمد التي قال بها معظم الفلاسفة والمتكلّمين العرب، على ما سنبيّنه لاحقا في القسم الأخير.
أمّا النتيجة المثيرة من هذا المعطى الحاسم فهي هذه: إنّ قول المشائية: ”إن من لم يشعر بحركة لا يشعر بزمان“ قول باطل ومردود والعكس هو الصحيح، لأنّ الشعور بالحركة التي هي أساس الشعور بالتغيّر عندهم يستلزم الشعور بمعاني القبل والبعد وما يلحقها من تقدّم وتأخّر الذي يلحق الحركة، ”لأنّ ما لا تغيّر فيه، فلا فائت فيه ولا لاحق.“ وهذان المعنيان [القبل والبعد] لا نعثر عليهما متجاورين في معنى الحركة بينما نعثر عليهما في النفس ويمكن تصوّرهما في الذهن. ومعنى ذلك، أنّ معاني ”القبل“ و”البعد“ الزمانيان هما اللذان يظهران الحركة لا العكس. يقول البغدادي: ”والذين قالوا: إنّ من لا يشعر بحركة لا يشعر بزمان يعكس القول عليهم فيقال: بل من لا يشعر بزمان لا يشعر بحركة، فإن الذي يشعر بالحركة يشعر بقبل وبعد في مسافة لا يجتمع القبل والبعد فيها، بل (تجتمع) في الأذهان، وذلك القبل والبعد (المتعلقان بالحركة) في قبل وبعد هو الزمان.“[9]
وإذا جاز ما ذهبنا إليه، أمكننا القول إنّ البغدادي يلتقي بهذا التصوّر لمعنى الزمان مع أفلاطون (427 ق.م/347 ق.م) وجانيلوس[10] (129م/201م) لكونهما كانا يقولان بأنّ الزمان جوهر قائم بنفسه مستقلّ بذاته، وأيضا مع فكرة الزمان المطلق[11] (المدة والدهر) كما رسم ملامحها أبو بكر الرازي[12] (ت. 311هـ/923م) على عادة القول الأفلاطوني والأفلاطوني المحدث (أفلوطين-بروقلس) في جوهرية الزمان غير القابل للقسمة. في حين نجده يختلف عنه في مسألة الزمان النسبي أو المضاف أو المحصور التي يبدو فيها الرازي قريبا من أرسطو وابن سينا والمشائين عموما[13]، لأنّ هذا الزمان لا يتقدّر إلاّ في علاقة بالحركة[14] كالزمان الذي يُستخدم في الفلك مقياسا لحركة الأجرام السماوية. وعلى ذلك، يمكن القول، إنّ تعريف صاحب المعتبر للزمان ينخرط ضمن تقليد ميتافيزيقي يدافع عن جوهريّة الزمان وقبليته، بيد أنّه يظلّ مع ذلك تعريفا أصيلا في مستوى معاييره، فهو يتعارض أوّلا مع كلّ حدّ ماهوي ينهض على صفة مجرّدة خالية من الوجود والشعور والفعل، وثانيا مع كلّ اختزال موضوعي يختزل الزمان في مدّة تعدّها الحركة وتقدّرها، وأخيرا مع كلّ مذهب لا يلتقي مع منهجه في التأمّل والاعتبار الذاتيين وبداهة إدراكنا للمعارف الأول.[15]
ولكي نتبيّن الأهميّة التي أولاها فيلسوفنا لهذا الغرض، يمكن أن نستحضر ما كشف عنه من ضرورة فكّ الرّباط بين الجانب الفيزيائي والجانب الهندسي. والحقيقة التي تطالعنا في هذا المجال، أنّه إذ يعمد في أوّل الأمر إلى تحطيم القرابة المكينة بين مفهوم الزمان ومفهوم الحركة، فمن أجل التأكيد على أنّ من لا يشعر بزمان لا يشعر بحركة لأنّ الزمان موجود سواء تحرّك المتحرّك أو سكن. وتبعا لذلك، إذا كان المشاؤون يرون أنّ الزمان عرض في المتحرّك من جهة حركته، فكيف يكون الجسم الساكن موجودا في الزمان أيضا؟ وعلى هذا، فإنّ الزمان بحسب البغدادي ”ليس بعرض موجود في الحركة، فإنّه ما من حركة إلا ويتصور الذهن رفعها بسكون المتحرك، ولا يتصور رفع الزمان أي لا يتصور إمكان عدم إمكان الحركات مع رفع حركة المتحرك منها في الأذهان بل يبقى مع رفع كل الحركات إمكان وجود حركة أو حركات وذلك الإمكان للحركات كالمكان للمتحركات.“[16]
واضح إذن أنّ صيرورة الحركة—كما يرى البغدادي—إنّما ينبغي علينا أن نعيها عبر صيرورة الزمان الذي يسكننا، لأنّ الزمان السيّال المتمثّل في ”قبل“ و”بعد“ متعاقبين على التوالي إنّما موطنه النفس والشعور، فالنفس هي موطن الشعور بالزمان بوصفه شعورا سيّالا ومتدفّقا لا يكفّ أبدا عن الحضور والاستمرار والتصرم والتجدّد، وهو في هذا الموطن ثابت الصلات والروابط بالحركة والمكان والمسافة. وعلى هذا، يمكن أن نفهم مبرّرات استعادة البغدادي قصّة أهل الكهف التي اتّخذها الشيخ الرئيس ومن قبله أرسطو[17] حجّة على أنّ الزمان هو مقدر الحركة.[18] يقول البغدادي: ”والذين استشهدوا بهم وهم أهل الكهف لم يشعروا بالزمان كما لم يشعروا بغيره، فإنّهم عدموا الشعور مطلقا، فإنّ النائم لا يشعر بشيء لا بحركة ولا بزمان لأنّ عدم الشعور بهذا علة عدم الشعور بهذا، ولو كانوا في كهفهم وظلمتهم على حال يقظة لما مضت عليهم ساعة لا يشعرون بها فإنّ الواحد منّا إذا كان كذلك وادعا ساكنا لا يدرك شيئا ببصره ولا يشعر بحركة متحرك يشعر بما مضى عليه من الزمان في حالته تلك ويقدر له ما يليق من الحركات فيقول في مثل هذا الزمان كان يمكنني أن أسير مسافة ما ويحدس الأوقات بتقديره له فيقول قد صار وقت كذا أو قرب فيشعر بالزمان مع عدم شعوره بالحركة فقد حصل لهم بالنظر معرفة المعرفة الأولى الثابتة في الأذهان مع حصول هذه المعرفة الثانية النسبية السلبية، فهذا بحسب نظر العقول.“[19]
إنّ قصّة أهل الكهف لا تنهض دليلاً عند البغدادي على أنّ الزمان هو مقدار الحركة، وحجّته في ذلك أنّ أصحاب الكهف أنكروا الزمان لا لأنّهم فقدوا الشعور بالحركة، بل لأنّهم فقدوا أصل الشعور وأصل الإحساس، فانعدام الشعور هنا هو العلّة في إنكار الزمان، ولكن في المقابل بمجرد عودة الشعور تحدس النفس الزمان بحسب المعرفة الأولى الثابتة في الأذهان. وعلى ضوء هذا النقد، يُمكن أن نفسّر السمة المهيمنة على فكرة الزمان عند البغدادي. ولذلك إذ نجده يهمل—في التعرّف على الزمان—أمر التّجربة الحسيّة (L’expérience sensible) باعتبارها منطلق النّظر التّجريبيّ ابتداءً ومُحتوى النّظر التّجريديّ انتهاء، فلكي يبحث عنه في عالم الشعور، أو ملكة الشعور عند الإنسان، وآية ذلك أنّ: ”الزمان تشعر به النفس بذاتها ومع ذاتها ووجودها قبل كل شيء تشعر به وتلحظه بذهنها.“[20] وفي هذا ما يفيد أنّ الشعور بالزمان شعور أصيل في النفس وأشدّه التصاقا بالإنسان وبمعارفه الأولى (les entités et les notions premières)، فمثلما تشعر النفس بذاتها ووجودها، فهي كذلك تشعر بالزمان قبل كلّ شيء تشعر به. وفي هذا المعنى يقول صاحب المعتبر: ”والأشياء التي هي غير محسوسة، منها ما هي أخفى عند العقل وأبعد في رتبة المعرفة عندنا، ومنها ما هي أعرف عند العقل وأظهر من كل ظاهر عند الإدراك الحسي في الجوهر والماهية كالزمان والوجود. والوجود أظهر من كل ظاهر وأخفى من كل خفي بجهة وجهة، أما ظهوره فلأنّ كل من يشعر بذاته يشعر بوجوده وكل من شعر بفعله شعر معه بذاته الفاعلة ووجوده ووجود ما يوجد عنها ويصدر من الفعل […]، وكذلك الزمان يشعر به كل إنسان، أو أكثر الناس، جملة ويشعرون بيومه وأمسه وغده […] وإن لم يعرف جوهر الزمان وجملته وكذلك الوجود يشعرون بانيته وإن لم يشعروا بماهيته.“[21] من هذا، يمكننا القول إنّ الذات لا تستدعيه بملاحظة الأشياء وبمقارنتها أو بالبرهنة عليها أو بالرويّة والتأمّل، وإنّما يُثار فيها تلقائيّا بديهيا انطلاقا من جريانه النفسي بداخلنا ”من غير تأمّل.“[22] فالإنسان يشعر بالزمان ويحصل لديه بالمعرفة الأولى الثابتة في الأذهان حتّى وإن كان وادعا ساكنا لا يدرك شيئا ولا يفكّر في شيء.
قد يكون من المفيد، هاهنا، التّمييز بين الإنيّة والماهية والوجود في مراس قول صاحب المعتبر، فرغم اختلاف الفلاسفة المسلمين في تحديد معانى الإنيّة والماهية والوجود ودلالاتها، فإنّنا نرجّح أنّ ابن ملكا يستعمل مفهوم الإنيّة[23] في معنى ما هو وجودي، والوجود عنده أولي التصور، و”ما هو أوّلي عند الذهن محكوم بفطرة العقل“[24] ”وله معرفة ثابتة في النفس.“[25] أي أنّه مرادف للمعارف الأوليّة ”التي يعترف بها الناس اعترافا أوليّا،“[26] وهي بذلك لا تحصل بالتأمّل والرويّة ولا تكتسب بالبرهان، في حين يستعمل الماهية بما هي محصول المعرفة النظرية العقلية من أجل إدراكها في مجرّد معناها أي فيما يقوّمها بالذات. وعلى ذلك، فإنّ الإنية تفيد، التوكيد والثبات، ولا تستعمل إلاّ في الإخبار دون السؤال: ”هل الشيء“. أما الماهية، فإنّها تفيد ما يعقل من الشيء: ”المفهوم“ أو: ”المعنى المجرد“، وخاصة في تحقيق ما يصلح في جواب عن سؤال: ”ما هو؟“ سواء وجد الشيء في الأعيان أم وجد في الأذهان.
وأمّا الوجود، فإنّه يمكن أن يدرك بالنّظر الأوّل كما يمكن أن يدرك بالاعتبار والتأمّل ”فلا تتكثر ماهيته بدلالة اللفظ وتصوّر الأذهان الذي يكون قبل التأمّل والمعرفة التامة.“[27] وبما أنّ الوجود أظهر من كل ظاهر وأخفى من كل خفي بحهة وجهة، فكذلك يشعر به كلّ إنسان أو أكثر الناس جملة ”ويشعرون بإنيّته وإن لم يشعروا بماهيته وكل ما يشعر به شاعر ويعلمه عالم فقد أدركه، وكلما يدركه مدرك فهو موجود وكل موجود إما أن يكون وجوده في الأعيان وإما أن يكون في الأذهان، وإما أن يكون فيهما. “[28] وعلى ذلك، يمكن أن نقول هنا، إذا صحّ أنّه لا مكان للتمييز أو للفصل عند البغدادي في نظامه الميتافيزيقي بين الإنيّة والوجود، فمعنى ذلك أنّ ارتباط الزمان بالإنيّة هو ارتباط وجودي وليس ارتباطا ماديّا أو معرفيّا أو ماهويّا، وبالتالي فإنّ الزمان هو في صميمه زمان وجودي لا زمان مادي بحيث يكون مشروطا في وجوده بالحركة والمسافة؛ وليس أيضا ارتباط ماهويّ أو بعديّ بحيث لا يشعر به ولا يدركه إلاّ العارفون أو الراسخون في العلم. وفي ذلك ما يُشير أيضا، إلى أنّ الشعور بالزمان شعور أوّلي أو فطري في النفس وليس موضوع برهنة، ولا حتّى موضوع اعتبار وتأمّل. والنفس بشعورها بهذه المعارف الأوَلية تنفذ إلى صميم هذه الإدراكات، أي أنّ معرفة النفس نفسها هي في صميمها معرفة ذاتية ليست في حاجة إلى توسّل الوسائل أو الأدوات على اختلاف ضروبها وأشكالها لأنّها تلتقي بمعارفها الأولى التقاء مباشرا كما يشعر الإنسان بوجوده وإن لم يدرك جوهر هذا الوجود وماهيته. وفي هذا المعنى الميتافيزيقي يمكن التفكير في الماهية كإمكان والوجود كمعطى أوّلى، ممّا يمنح أسبقية زمنية للوجود على الماهية.
هكذا نتبيّن إذن أنّ الإشكال بالنّسبة إلى صاحب المعتبر ليس مجرّد إشكال ابستيمولوجي أو منطقي، بل هو إشكال أنطولوجي، شديد الالتصاق بطبيعة حضور الذات. وعليه فإنّه عندما نتحدّث عن المعاني الأولى فإنّ الوجود والماهية لا يكونان نفس الشّيء في حين أنّ الإنيّة هي إثبات للوجود من دون الحاجة إلى تعريف له. ولعلّ القصد الفلسفي في هذا الأمر، هو أنّ علاقتنا بأنفسنا هي أقدم من علاقتنا بأيّ حركة خارجية أو تجربة بعدية، وأيضا من أيّ تأمّل خارجي في الموجودات. وعليه، فإنّ الزمان ليس مجرّد فكرة مستقاة من الخارج بل هو شعور أوّلي متجذّر في صميم الذات[29]. وهنا نقف لنتساءل: ما الذي يُشرّع للمقارنة بين البغدادي وكانط بخصوص موضوع الزمان؟[30]
ثانيا: الزمان باعتباره معنى أوليّا
لعلّه ليس من المجازفة في شيء أن نقارن في ثنايا هذا البحث موقف البغدادي بخصوص الزمان مع بعض التصوّرات الحديثة، لأنّ الثّقل الّذي فرضه صاحب المعتبر مهّد لإبداع لغة جديدة في التعاطي مع مشكل الزمان. وإذا ترجمنا هذا إلى اللّغة الابستيمولوجيّة الحديثة أمكننا القول: إنّ ما ذهب إليه إيمانويل كانط (Emmanuel Kant, d. 1804) في كتابه نقد العقل المحض يمكن أن نجد فيه تعبيرا عن تلكم المعارف الأوليّة التي عبّر عنها البغدادي في لحظة سابقة في الكتاب المعتبر حين ذهب إلى أنّ الزمان مثله مثل المكان هو أقدم عند الذهن من الملإ، لذلك فإنّ وجوده أظهر من أن يختلف فيه العقلاء كما اختلفوا في وجود الخلاء.[31] وإذا كان برهان كانط على أوليّة الزمان وقبليته هو أنّ الزمان ليس مفهوما تجريبّا مستمدّا من تجربة ما ”ذلك أنّ المعيّة شأنها شأن التتالي لا تدرك إن لم يشكل تصوّر الزمان أساسا لها. وبموجب هذا الشرط فقط يمكن تصور أنّ شيئا يوجد مع شيء آخر في زمن واحد (معا) أو في أزمنة مختلفة (على التوالي).“[32] فإنّ برهان صاحب المعتبر أنّ قضيّتي التقدّم والتأخّر والقبل والبعد والتغيّر دليل على أوّلية الزمان، ذلك أنّ الزمان لا يدرك بالنظر الأوّل فحسب، بل هو ما به ندرك الموجودات في وجودها الذهني والعياني.[33] وبما هو كذلك، فإنّ الزمان يدركه الإنسان إدراكا أوليّا ”بالنظر الأول“[34] (science a priori)[35] لا بالقياس إلى التجربة أو بالقياس إلى الحركة أو التغيّر الذي تقدّره الحركة لتجعل منه زمانا. أي أنّه بعبارة البغدادي ”معرفة أولى تشعر بها النفس بالذات.“[36] وهنا تبدو الصلة وثيقة بين الضرورة القبليّة التي يقوم عليها إمكان الزمان والمعارف الأوليّة الخاصّة بإدراك الزمان. ومن أجل ذلك يذهب كانط إلى أنّ هذه ”المبادئ لا يمكن استخلاصها من التجربة، لأنّ التجربة لا يمكن أن تعطى كليّة دقيقة محكمة، ولا يقينا ضروريّا. ولكن، قصارى ما يمكن قوله: هذا ما يعلمنا إيّاه الحس المشترك، لا أن نقول: هذا ما يجب أن يكون. فلهذه المبادئ قيمة القواعد التي تجعل التجارب ممكنة، إنّها تعلمنا قبل التجربة، لا بواسطتها.“[37]
وعلى حين أنّ كانط يبرهن أنّ الزمان معطى قبلي لأنّه يمثّل الشرط العام لإمكان الظواهر، بمعنى أنّه إذا كانت الظواهر لا تُدرك بدون تصوّر الزمان، فإنّه يمكن أن نتصوّر الزمان بدون ظواهر.[38] نجد البغدادي—كما سلف غير مرّة—لا ينكر أنّ الذهن يدرك علاقة ما بين الزمان والحركة، ولكن حين يعمد الذهن إلى تحليل المدّة التي تُستخلص من مقارنة الحركات يدرك أنّ الزمان لا يتوقّف على الحركة ولا يرتبط بها لأنّ الحركة تزول وتعدم والزمان كما هو باق سيّال، وفي ذلك ما يفيد أنّ وجود الزمان أسبق وأقدم عند النفس من الحركة والسكون. وعلى ذلك، يبقى الزمان بدون الحركة، والحركة لا تستمرّ في الوجود بدون زمان. ولذلك يذهب عالمنا الفيلسوف إلى التأكيد بأنّ ”الزمان متقدما في وجوده ومعقوليته على سائر الحركات والسكونات لا يرتفع برفع شيء منها بل يستمر في الوجود دونها ولا تستمر هي في الوجود دونه، فحركة كل متحرك وسكون كل ساكن فيه ومعه ويتعلق في الوجود به ويتحدد به ولا يكون هو في شيء من ذلك ولا يتعلق وجوده بوجوده ولا يتحدد به، فالزمان ومعقوله أقدم في الوجود والمعقول من كل ما يعرف به ومعه.“[39]
وربّما كانت تلك طريقة أخرى للقول إنّه إذا كان صاحب المشروع النقدي يلحق الزمان والمكان بنظرية المحسوس، فإنّ ذلك لا يعني أنّهما معطيان تجريبيان، بل بما هما شرطان أوليان (قبليان) للتأمّل الحسّي. وإذا كان المحسوس يظهر في الزمان والمكان بما هما معطيان قبليان خالصان أي بوصفهما شرطان قبليان للحساسيّة (la sensibilité)، فذلك لأنّ الحساسية هي التي تحدّد كيف نكون مستعدين لقبول معطيات التجربة الخارجيّة، ولذلك يُدرك الزمان قبليّا بوصفه حدسا خالصا؛ فمن حيث هو حدس خالص (intuition pure)، فهو يتعيّن عبر إدراكنا الداخلي الجواني، فيكون بذلك وعيا بسيطا وثابتا، ومن حيث هو قبليّ فهو يهيئ لتقبّل الحدوس الحسيّة. وهذا معناه بعبارة أخرى، أنّه على الرّغم من أنّ الزمان هو في صميمه حدس خالص، فإنّ هذا الحدس هو ما به تكون معرفتنا بالأشياء ممكنة. وهنا نكون أمام حكم تأليفي قبلي (jugement synthétique à priori)، في معنى أنّه يمكننا تقبّل التمثلات من جهة إمبيريقية. وهذه النقطة بالذات هي التي ستؤسّس للمنعرج الترنسندنتالي الكانطي، ليتجاوز بذلك ريبية عصره (خاصة التصور الذي انتدبه دافيد هيوم للزمان)، نحو مثالية ترنسندنتالية من شأنها أن تجعل المعرفة ممكنة قبليا.
وبعامّة، يُمكن استبصار الملامح التالية في إشكاليّة الزمان التي انتدبها كلّ من البغدادي وكانط في فلسفتهما، فإذا كان كانط يذهب في اتّجاه تأكيد الطبيعة القبليّة للزمان لأنّه شرط القبليّة والمعيّة اللتين ندركهما في الأشياء الداخلية والعيانية، فإننا نجد البغدادي قد سبق جوابه إلى ذلك لأنّ ”الأذهان بفطرتها لا تشك في قدم الزمان والمكان ولا تتصور عدمهما، والذين تمحلوا حتى جعلوا معنى الزمان مقدار الحركة حتى يتصورا عدمه مع عدمها والمكان باطن الحاوي الذي يلقى المحوى حتى يتصور رفعه وعدمه بعدم الجسم الحاوي قالوهما بمعنيين يتصور المتصور رفعهما وعدمهما ويبقى ما في الذهن من المعنيين الأولين في الزمان والمكان على ما كانا عليه عند الأذهان في أنها لا تتصور عدمهما بوجه.“[40] والنتيجة، أنّه رغم تأكيد صاحب نقد العقل المحض أنّ فكرتي المكان والزمان ليستا منفصلتين أو متمايزتين، أي أنّهما تمثّلان شرط وجود الأشياء،[41] إلاّ أنّهما تلتقيان في كونهما تعطيان امتيازا للزمان على المكان؛ لأنّه إذا كان المكان هو الشرط القبلي للظواهر الخارجية، فإنّ الزمان يبقى الشرط القبلي لكلّ الظواهر، خارجية كانت أو داخلية. ومن أجل ذلك أدرج صاحب المعتبر الزمان ضمن ما يُدرك بالنظر الأول إلى جانب النفس والوجود. بيد أنّه إذا كان الزمان يستمدّ مكانته في النظرية الكانطية من ثنائية الحساسيّة والذهن باستخدام المفاهيم المنطقية، فإنّه مع البغدادي يستمدّها من النفس والشعور. ولعلّه بذلك، إذ يبتعد عن كانط فلكي يلتقي مع ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون Henri Bergson (1859م/1941م) في تصوّره لمفهوم الزمان. فعلى أي جهة يمكننا أن نفهم هذا اللقاء؟
غير بعيد عن التصوّر الذي ذهب إليه كانط، يلتقي البغدادي أيضا بالتصوّر الذي انتدبه لمعنى الزمان وعلاقته بالشعور مع برغسون، لا لكونهما جعلا من مشكل الزمان مبحثا من مباحث الميتافيزيقا فحسب، بل من حيث اعتباره معطى ذاتيّا كامنا فينا نتأثّر به باستمرار انطلاقا من سيلانه الداخلي فينا، أي بوصفه معطى مباشرا في وجدانناune donnée immédiate de la conscience) [42]). فأن يكون الشعور بالزمان لا يتجزّأ مثل كلّ شعور بسيط، ومثل كلّ معطى أوّلى وبسيط، فإنّ تصوّر البغدادي للزمان في علاقته بالنفس والوجود يبدو قريبا ممّا اصطلح عليه برغسون بــ”الزمان الحقيقي/الحي“[43] الذي لا يخضع لقوانين وإكراهات الزمان الفيزيائي، بل الذي يتماهى مع الديمومة،[44] والذي تحدسه الذات على نحو مباشر بصفاته النوعية وفي سيلانه المستمّر والمتدفّق.[45] وبالنتيجة، يكون من التعسّف تفتيته إلى لحظات منفصلة لأنّ دخول الزمان في الوجود كما يشير إلى ذلك البغدادي هو ”دخول ما هو في السيلان.“[46] ولذلك ”إذا قال قائل في دعائه لشخص—أطال الله بقاءك—فقد قال له: أطال الله وجودك لا زمانك، فإن الزمان إنما يكون للموجود بوجوده المستمر فيه وإلا فالزمان لا يطول ولا يقصر بل هو في استمرار لكون وجود زيد أقل وأكثر.
وإذا سلّمنا تبعاً للتّمييز البغدادي بين المقدارين فإنّه بإمكاننا القول، إذا كانت الأطروحة المشائيّة تعتبر الزمان هو مقدار الحركة وتوظّف في ذلك تحليلا فيزيائيّا بسبب وجود الجسم المتحرّك والحركة ومقدار الحركة، فإن البغدادي يذهب في مقابل ذلك إلى اعتبار أنّ الزمان هو مقدار الوجود، وبذلك فهو يستعيض عن التحليل الفيزيائي للزمان بتحليل فينومينولوجي، لا بسبب دور الحدس[47] في إدراك الزمان فحسب، بل وأيضا لأنّ السيلان هو ما يجعل من الوجود ممكنا ومستمرّا. وربّما من أجل ذلك ذهب باشلار Gaston Bachelard (1884م/1962م) في سياق عودته إلى برغسون، إلى حدّ القول: ”ربّما يكون التوقّف عن السيلان معناه التوقف عن الوجود.“[48]
وعلى هذا الأساس، بإمكاننا القول، إنّ وجه الطرافة في هذا الأمر هو محاولة البغدادي إرجاع هذه المفاهيم الفلسفية اليونانية إلى معجم الحياة اليومية الذي يقوم الفكر الفلسفي على استبعاده. ولعلّه من أجل ذلك، نجد برغسون يؤكّد هو الآخر على أنّ الزمان المعيش من قبل الشعور متميّز تمام التميّز عن زمان الفيزيائيين لأنّه يفهم باعتباره انجذابا، ”يسمح بالنفاذ إلى قلب الأشياء لكي تتطابق حسب عبارة برغسون مع ما في الأشياء من خصوصي صرف لا يمكن التعبير عنه بل يصار إليه بنوع من الاستقصاء الميتافيزيقي، وهو الاستقصاء الذي يوحي بما في الشيء من جوهري وخاص.“[49] وهذه الفكرة هي التّي ستؤسّس لرؤية فينومينولوجيّة لمشكل الزمان. فالفينومينولوجيا المعاصرة إذ تصل الزمان بنشاط الوعي فمن أجل الانتباه إلى الوجود في تزمّنه والإصغاء إلى الديمومة في سيلانها، أي بوصفها معنى داخليا للتجربة المعيشة. وبهذا التقدير، فإنّ الزّمان الذي تعيشه الذات ليس الزمان الذي يمكن تقسيمه إلى ثوان ودقائق وساعات ولا حصيلة تتابع لحظات منفصلة، ولا هو أيضا شيء قابل للملاحظة الموضوعيّة والتقسيم والقياس والإحصاء والعدّ، بل هو في صميمه حدس للديمومة في عمقها وتواصلها التي تكوّن شيئا واحدا مع الوجود، أي ذلك الزمان الذي يعرفه الناس ويعرفون ”أنّه موجود معرفة لا يشكون فيها.“[50] وربّما من أجل ذلك ذهب برغسون إلى حدّ إدانة ما أصطلح عليها بـ”الأخلاط“ (les mixtes)، وهي عنده من ”المسائل المغلوطة“ (faux problèmes) [51]. وإذا كان علاج هذه المسائل يتطلّب تحليلا، ”فإنّ تحليل الزمان ، ينبغي أن يضعنا أمام عنصرين أو بعبارة برغسون إزاء ”توجهين“tendances فيه مختلفين: فمن جهة هناك الزمان الفضاء أو المساحة الخارجة عنا القابلة للقيس والتقسيم، وهناك من جهة أخرى الدوام la durée الذي لا يمكن أن نظفر به إلا فينا وداخلنا بصفة مباشرة.“[52]
هكذا نتبيّن كيف أنّ تفكير صاحب المعتبر في الإدراكات الأوليّة يلتئم عند مفترق المعاني الثلاثة التالية: النفس – الزمان – الوجود. والبغدادي يقرّر هذا في وضوح حين يجعل للنفس إدراكات ثلاثة أولية: إدراك الذات ذاتها، وإدراكها للزمان، وإدراكها للوجود. وهذه الإدراكات الثلاثة هي في صميمها إدراكات مباشرة، والنفس من منطلق محايثتها لذاتها تنفذ إلى صميم هذه الإدراكات، لأنّ الشعور المحايث لوجود الذات يجعلها تدرك ذاتها إدراكا ذاتيا ”حاضرا لا يغيب عنه.“[53] وبهذا التقدير، ليس علينا أن نخرج من ذواتنا لمعرفتها، بل إنّه ليس علينا إلاّ أن ننصت إليها فينا، وأن ندركها في داخلنا. وهكذا، فإنّ فيلسوفنا حين يصل بين الإدراكات الأوليّة الثلاثة وهي: النفس والوجود والزمان، فإنّه بهذا الوصل إنّما يجعل من الزمان في بداهته وظهوره ووضوحه مماثل لحقيقة الوجود ومماثل لحقيقة النفس في شعورها بذاتها. وهنا يلتحم الزمان مع الوجود، وينشأ عن هذا الالتحام أن يصبح الزمان توأم الوجود وهويّته.[54] وبهذا المعنى، إذا كان للزمان من وظيفة، فإنّ هذه الوظيفة لا تنضاف من الخارج إلى الوجود، بل هي الوجود ذاته، أي ما به يكون وجودا. ولعلّ هذا هو ذاته ما يبرّر التساؤل عن طبيعة العلاقة الممكنة بين الزمان والوجود. فكيف يجدر بنا أن نفهم هذه العلاقة؟ وعلى أيّ نحو يمكن أن نفهم اقتضاء الوجود معرفة بالزمان؟
ثالثا: الوجود والزمان
لعلّ من أخطر المشاكل التي تطرحها فلسفة البغدادي هي مشكلة التعرّف إلى طبيعة العلاقة بين الوجود والزمان، إذ أنّه بالرّغم من أنّنا نشعر بالزمان، في غالب الأحيان، بوصفه معطى أوّليّا، فإنّ السؤال الذي يستوقفنا، ههنا، ما الداعي لمنح كلّ هذه الجدارة الأنطولوجيّة للزمان؟ ولكن، كيف يقدّر الزمان الوجود؟ وأيّ ضرب من الاعتبار تقتضيه حقيقة التّفكير في الزمان وعلاقته بالوجود؟
يبدو أنّ البغدادي—من منطلق تقديره الكبير للمعاني الثلاثة—النفس- الوجود – الزمان- يمنح الزمان مكانة خاصّة لا في الفلسفة فحسب، بل إنّه يقيم نوعا من القرابة الأوليّة بين الزمان والوجود. وعلى ذلك، إنّ القول بأنّ الزمان هو مقدار الوجود، ليس مسألة عفوية أو اعتباطيه عند صاحب المعتبر، بل هو يمثّل خطوة أساسيّة لتجاوز فكرة الزمان المادي المشروط في وجوده بالحركة ليضعه بذلك في مركز التّفكير الإنساني وفي صميم الاهتمام الفلسفي باعتباره يمثّل اللاّزم الأوّلى لفهم إشكاليّة الوجود. ولذلك فوجه الطرافة عنده هو افتراع وجه من المساءلة الفلسفيّة للزمان من خلال التفكير بالتقابل بين الفيزيائي والميتافيزيائي، وليس بالتقابل بين العدد والحركة أو بين العرضي والجوهري أو بالتقابل بين القوّة والفعل. وبهذا التقدير، يمكن أن نستجلي وجها آخر من وجوه اعتراض البغدادي على أرسطو والمشّائيين عموما. ففي حين كان التصوّر المشائي ينصّ على مقدارية الزمان وعرضيته،[55] على اعتبار أنّ المقدار بالنّسبة إلى المشّائين لا يعقل إلاّ كعرض للجسم الأمر الذي يفسّر تغيّر أشكال تبعا لتغيّر المقادير بينما تبقى الجسمية كما هي. ويستدلّون على ذلك بمثال الشمعة التي قد تتغيّر أبعادها ولكنّها مع ذلك تحافظ على جوهرها كما هو، وفي ذلك ما يشير إلى أنّ الأجسام تختلف وتتمايز بالمقادير إلاّ أنّها تشترك جميعا في معنى الجسميّة، فالمقدار ليس إذن هو ذات الجسم، وإنّما هو عرض في الجسم. نرى أنّ البغدادي، في مقابل ذلك، يذهب إلى تعريف جديد للزمان بما هو ”مقدار الوجود“ وهو تعريف يستهدف إبراز المشروع الأساسي لمَا يمكن تسميته المعنى الوجودي للزمان. وحينئذ، يكون الوجود وجودا زمانيّا، لا من جهة كونه يدرك مع الزمان وفي الزمان، بل بما هو اللاّزم الذاتي لإنيّته. وفي هذا المعنى، يذهب فيلسوفنا إلى القول: ”إذا راجع الإنسان نفسه وجد ذهنه لا يتصور ولا يتخيل ولا يتمثل ما لا مقدار له من صغير أو كبير، بل لا يتخيل الأشياء إلا بمقادير وليس المقدار شيئا آخر غير المقدر […] وكما أن العدد ليس شيئا غير المعدود إلاّ في الذهن والتصور كذلك المقدار ليس هو شيئا غير المقدر إلا في الذهن وكما أن العدد هو تكرار شخص المعدود مثل الدينار والدينارين اللذين ليس معنى الاثنينية فيهما شيئا سوى شخصيهما والزيادة زيادة من الجوهر المعدود والنقصان منه لا من العدد، فالعدد معنى في النفس به تعريف القليل والكثير والزائد والناقص وكذلك يعلم المقدر من المقدار وليس المقدار شيئا غيره حالا فيه حتى يُقال إنّ المقدار هو صورة الجسم أو عرض لازم لصورته.“[56]
وفي مثل هذه الخاصيات التي تحيط بمعاني الجسم والمقدار، أي بين المقدّر ومقداره، يمكننا القول إنّ البغدادي لا يقيم حدّا فاصلاً بين المقدار والمقدّر، وما الفصل بينهما إلاّ فصل اعتباري ذهني، وبيان ذلك أنّ المقدار ليس عرضا خارجا على ماهية الجسم المقدّر، وإنّما هو فصل ذاتي في الجسم، فالجسم جسم لأنّه مقدار، لا لأنّه جوهر قابل للتكميم والتقدر بالأبعاد. أمّا عالمنا الفيلسوف فينفرد، من ناحية أخرى، بالتّعبير صراحة عن أنّ الزمان هو مقدار الوجود، في معنى أنّه ليس عرضا في الوجود أو شيئا طارئا عليه، بل هو مساوق للوجود مساوقة المقدار للمقدر. وبما أنّ الزمان هو المقدار الذي نقدّر به الوجود، فهو بهذا التصوّر ”اعتبار ذهني“[57] نقيس به الموجودات المختلفة في مقدار وجودها. وهذا معناه ببساطة أنّ الزمان يقدّر الوجود لا على أنّه عرض قار، بل على أنّه ”اعتبار ذهني“ أو ”تصوّر ذهني“. والاعتبار الذهني في ميزان تفكير صاحب المعتبر إنّما يكون فيه ذلك بالنظر الأوّل، وفي هذا المعنى يقول البغدادي: ”وكذلك الزمان يقدر الوجود لا على أنه عرض قار في الوجود، بل على أنّه اعتبار ذهني لما هو الأكثر وجودا إلى ما هو أقل وجودا، والناس في عرفهم يقولون وجود دائم وطويل وقصير أي طويل المدة وقصيرها كما يُقال في الجسم إنه طويل وقصير أي طويل المقدار وقصير وزيادة الزائد ونقصان الناقص ليس بمقدار مجرد يكون لأحدهما دون الآخر بل بجسم يزيد وينقص وكما لا يتصوّر ارتفاع الوجود في الأذهان كذلك لا يتصور ارتفاع الزمان.“[58] ومن هنا يغدو الزمان اللازم الذاتي للوجود بما هو معنى معتبر في الأذهان.
ومن أجل أنّ معاني الموجودات تتغيّر من حولنا، فإنّ التغيّر—على ما يرى البغدادي—لا يعني تغيّرا في معنى الوجود، لأنّه إذا كان الوجود يعرفه العارفون معرفة أولية فمعنى ذلك أنّ ”الوجود موجود بهذا الاعتبار […] ووجود ذلك الوجود أيضا يكون موجودا، فيكون الموجود موجودا بالوجود، والوجود بالوجود موجود لذاته لا بوجود يتّصف به.“[59] كما أنّه لا يعني أيضا تغيّرا في معنى الموجود بقدر ما يعني تغيرا في مقداره، لأنّنا حين نفترض أنّ جسما أعظم من جسم فليس معنى هذا أنّ مقدارا طرأ وزاد على الجسم، بل معنى ذلك أنّه ثمّة جسمية أعظم من جسمية أخرى. وفي ذلك ما يشير إلى أنّنا لا نستطيع أن نثبت جوهرا ثابتا بينما يصبح مقداره الوجودي قابلا للزيادة والنقصان، ومن ثمّ كانت فكرة صاحب المعتبر أنّ المقدار ليس عرضا خارجا عن الجسم المقدّر، وإنّما هو اللاّزم الذاتي في الجسم، فالجسم جسم لأنّه مقدار. فإذا كان الزمان كذلك مساوقا للوجود مساوقة المقدار للمقدّر، فكيف يلتقي الزمان بالوجود ويتقدّر به؟
لعلّه من المفيد، هاهنا، القول بأنّ الوجه العصيّ لهذا الإشكال الذي أشرنا إليه، مترتّب عن تقدير طبيعة الآن (l’instant)، فارتباط الزمان بالحركة في الفكر المشائي[60] يقيّد الزمان بأغلال التوهم، لأنّهم جعلوا الآن خارجا عن فكرة الزمان، أي أنّه فصل متوهّم مفترض افتراضا.[61] وبما أنّ الحركة متّصلة، فإنّ الزمان متّصل، لأنّه يطابق المتّصل، وكلّ ما طابق المتّصل فهو متّصل. وعلى ذلك، فإنّ انقسامه بالوهم فقط، حيث تثبت له في الوهم نهايات وهذه النهايات تسمى ”آنات.“ والزمان من هذه الناحية مماثل للمادة. فكما أنّنا نستطيع أن نقدر في المادة هيئات قارة كثيرة العدد، لها مقدار واحد قار أيضا، كذلك نستطيع بالمثل أن نقدّر في الزمان هيئات غير قارة كثيرة العدد، لها مقدار واحد غير قار أيضا، وهذا المقدار الواحد غير القار هو الزمان. بعبارة أخرى، إنّ النقطة المكانية واللحظة الزمانية لا تملكان إلاّ وجودا وهميّا وليس وجودا حقيقيا. ومع ذلك، فالوجود الوهمي للآن لا يلغي حقيقة الزمان ذاته. ولعلّ هذا ما جعل فكرة الآن عند أرسطو فكرة مبهمة لأنّ أرسطو حين رفض أن يكون الآن جزءا من الزمان، وأنّه لا يوجد في الآن سكون ولا حركة، فإنّما كان يأخذ في الاعتبار أنّ ”الآن“ بخاصيّة عدم انقسامه، وهو بخاصيته هذه لا يغدو موطنا للحركة، وبالمثل لا يمكن أن يوجد في الآن سكون أو توقّف، لأنّ ”الآن“ دائما هو حدّ بين زمانين، فإذا تصوّرنا شيئا يمكن أن يتحرّك في الآن، فإنّنا نتصوّره متحرّكا ساكنا في ذات ”الآن“، فهو متحرّك باعتباره نهاية لأحد الزمانين وساكنا بوصفه عند بداية الآخر. فالآن في التصوّر المشّائي حدّ وهمي يتخلّل أجزاء الزمان أو هو نهاية لجزء من الزمان وبداية لجزء آخر، وهو غير قابل للقسمة لأنّه لو كان جزءا لكان منقسما بانقسام الزمان.[62] وهذا مردود بحسب البغدادي ”بفطرة الأذهان“[63] لأنّه إذا كان الزمان مركبّا من آنات، وإذا كان الآن كما ذهب إلى ذلك التصوّر المشائي لا يقبل أن يوجد فيه الحركة، فكيف إذن تتمّ الحركة في الزمان؟
سيتجاوز البغدادي هذا الإشكال معتبرا أنّ الزمان الحقيقي هو آنات متّصلة، وأنّ هذه الآنات في اتّصالها المستمّر إنّما تعني الزمان في جوهره المتدفّق والسيّال، ذلك لأنّ الآن إنّما يعني الوجود، والوجود يعني الحضور الذي هو نحن أنفسنا، فلو لم يكن ثمّة ”آن“ لما استطعنا أن نقول: إن هاهنا حضورا أو وجودا، فنقطة الالتقاء بين الزمان والوجود هي ”الآن“ الذي يجري أزلا وأبدا مع الوجود دون توقّف أو سكون، وإلى ذلك يذهب البغدادي في قوله: ”والزمان يلتقي الموجود بالآن، فلولا الآن لما دخل الزمان في الوجود على الوجه الذي دخله. وليس دخوله بأن يتلو آنا، بل بأن يستمرّ منجرّا على الاتصال، فمتى التفت إليه ملتفت، أو اعتبره معتبر، أو وقّته موقت، وجد الداخل الوجود منه هو آن، لا زمان. فأما أن الآنات لا تتتالى حتى يكون منها الزمان، فكما لا تتتالى النقط فيكون منها الخط، لأنها ما لا ينقسم، ومجموع ما لا ينقسم ينقسم، فهكذا يتصور الزمان في وجوده وتصوره.“[64]
وإلى جانب ذلك نرصد اختلافا آخر بين البغدادي والتصوّر المشّائي. فإذا كان أرسطو يذهب إلى وصل الزمان بمقولات القوة والفعل، بحكم أنّ الحركة هي ”خروج من القوة إلى الفعل في لا آن واحد.“[65] فإنّه بعيدا عن مقولات القوة والفعل المشائّية، يرى صاحب المعتبر أنّ دخول الزمان في الوجود هو دخول ما هو في السيلان. ولهذه الملاحظة خطرها ولا سّيما في هذه المسألة التي نحن بصددها، لأنّه إذا صحّ أنّ الزمان يدخل للوجود عن طريق الآن، فمعنى ذلك أنّ الزمان لا يمكن أن نتصوّره أمرا منفصلا عن الوجود، لأنّ الذي مضى منه قد أصبح في عداد المعدومات، وكذلك ما يأتي منه لم يحدث بعد. ومن ثمّ كان الزمان متّصلا في إنيّته ووجوده لأنّه يدخل في الوجود دخول السيلان. وعلى ذلك، فهو ليس كمّا متّصلا أو كمّا منفصلا بالمعنى الذي نجده في الفلسفة المشائية أو بلغة الزمان المقيس، بل هو أمر واحد ثابت في ذاته لا يجري عليه تبدّل ولا تحوّل ولا تغيّر إلاّ حين نعتبره ونقيسه إلى ما يقع فيه من تغيرات وأحداث، ومن أجل ذلك قيل: ”زمان عدل وزمان جور وزمان نعيم وزمان بؤس وما أشبه هذا.“[66] وهذا يدلّ على أمرين: الأول أن الزمان لا يقوم إلاّ بالنفس، والثاني أن الزمان هو امتداد أو مدّة متّصلة، والطابع الأصيل للزمان هو المدة والاستمرار والتدفّق والسيلان.
وربّما لأمر كهذا، ذهب برغسون في لحظة لاحقة إلى التأكيد على أنّ الديمومة الحقيقية هي الديمومة المعيشة من قبل شعورنا التّي لا تكون لها علاقة بالزمان الذي يدرسه الفيزيائي لأنّه قابل للانقسام إلى ما لا نهاية له من جهة أنّه يمكننا—ضمن مدّة معطاة—أن نحسب عددا محدودا من الظواهر في حين أنّ المدّة في الديمومة ”العينية والمتغايرة والحية،“[67] تقال في معنى التدفّق والسيلان. وعليه فإنّ قابليّة القسمة تقال على الزمان المقيس ولا تقال على الديمومة أو الزمان المعيش. ولكن هذه المرّة وفق شعور الذات وحدسها لذاتها أي وفق ما نعثر عليه مباشرة داخل ذواتنا.
وعلى هذا النّحو من الاعتبار، إذا كان الزمان يوجد ابتداء من الآن، فإنّ الذات وحسب تحليلات البغدادي، تتزمّن ابتداء من الحاضر، وعندما نقول ”الحاضر“ فإنّنا نحيل إلى حضور الذات وإدراكها لذاتها بالنظر الأول، والذات بدورها تحيل إلى زمان الوجود بما يعني أنّ الرابط بين هذه الآنات هو في صميه رابط وجودي وليس رابطا معرفيّا قابلا للقياس والاختبار. بعبارة أخرى، إنّ الزمان ليس مجرد شيء قابل للقسمة ما دام موجودا في الآن. وهذه الوحدة لا تجد أساسها في التغيّر أو الحركة، وإنّما تتشكل من تلاحم أصيل بين الآنات. وبناء على كل هذا، يمكننا القول، إنّ مفهوم الآن ومختلف حالاته يذهب إلى ما وراء المقولات الفيزيائيّة، وما وراء فكرة الزمان المادي أو الفيزيائي. وما دام الزمان هو مقدار الوجود وما دام الوجود ليس سوى الزمان الاعتباري الذاتي، أي الزمان كما تحدسه الذات في حركتها وفعلها وسكونها، فإنّه حيثما يتصوّر الذهن الوجود يتصوّر توأمه وقرينه ومقداره الذي هو الزمان. وعلى ذلك، نحن لا نتساءل عن الزمان بمفرده، ولا ندرك أيضا في الوجود وحده، بل نحدس الزمان والوجود لحظة حدسنا لذواتنا. وحينئذ، يمكن القول إنّ خطأ الفكر المشّائي—حسب البغدادي—يتمثّل في أنّهم تصوّروا الزمان كمفهوم جامد وكمقدار متغيّر أو ظرفي غير أنّه يظلّ—في الحقيقة—سيلانا متّصلا وتدفّقا مستمرّا. وعندما يتعلّق الأمر بالشعور فهو يتقدّر بنا لا بالحركة أو بالتغيّر أو بالتجربة.
وبالنتيجة، سواء تعلّق الأمر بالزمان أو بالوجود، فإنّنا لا نهتمّ في هاتين الحالتين إلاّ بما نشعر به لحظة شعورنا بذواتنا. وعلى ذلك، حيث يكون زمان، يكون وجود، وحيث يكون وجود يكون زمان، ولذلك انتهى البغدادي إلى النتيجة التي تقول بأنّ ”الزمان بتقدير الوجود أولى منه بتقدير الحركة.“[68] ولعلّ العنوان الكبير هنا هو فهم الوجود في ضوء الزمان أو بما هو في إنيّته زمانا. ولكن، مهما كان شأن هذا الأمر، فبإمكاننا أن نرى في هذه العلاقة بين الوجود والزمان، كما يتصوّره البغدادي، حالة خاصّة من حالات إدراك الوجود. وهو إذ ينحو هذا المنحى، إنّما ليؤكّد المعنى الوجودي للزمان بوصفه التعبير الأكثر أصالة عن حضور الذات. وإذا كان الأمر كذلك، أفلا يتصوّر العقل ضربا من الوجود تنحلّ فيه العلاقة بين الوجود والزمان؟ وبعبارة أخرى: هل الزمان يقدّر الوجود بما هو وجود، بمعنى أنّه يقدّر الوجود الثابت الدّائم كما يقدّر الوجود المتغيّر المتحوّل أم أنّه في هذا التقدير لا يقتصر إلاّ على الوجود المتغيّر فقط؟
على الرّغم من أهميّة النّقد العام الذي وجهّه البغدادي للفكر الأرسطي وغيره من المشّائين الذين تابعوا المعلم الأوّل من الذين استشنعوا قول القائلين بجوهريّة الزمان وسيلانه، فإنّنا نجده—إضافة إلى ذلك—يتظنّن على التصوّرات التّي وضعت حدودا وفواصل بين عوالم وجوديّة متمايزة (السرمد والدهر والزمان). أي أنّه إلى جانب نقده للفكر المشائي الذي يشرط في الزمان الحركة، فإنّه سيعتني الآن بإيضاح عيوب هذا الفكر الذي يقيم مفاضلة بين الوجود الثابت والوجود المتغيّر، وبالتالي بين موجودات فاسدة وموجودات أبدية. في حين أنّ الأمر—بحسب صاحب المعتبر—لا يعدو أن تكون سوى ”تهويلات خالية عن التحصيل والتحقيق.“[69]
ومن أجل فهم فساد هذا التباين، يمكن العودة إلى أطروحة ابن سينا الذي ذهب صراحة إلى اعتبار أنّ الأشياء الموجودة في الزمان هي الموجودات المتحرّكة، أمّا الموجودات غير المتحرّكة فليست في الزمان بل هي مع الزمان،[70] والدليل على ذلك أنّ الزمان لا يؤثّر فيها أصلا. ويعلّق ابن عدي على هذا الأمر بالقول: ”ˮفالزمان ليس يقدر الحركة بما هي سرمدية عندهم، ولكن الجزء منها، وكل جزء منها فهو متناه.“[71] ويضيف بعد ذلك ”ولمّا كانت الحركة في الزمان على أنه عدد، والعدد يشمل المعدود وجب أن يكون الزمان العام المطلق أعم من كل زمان شيء شيء. وإذا كان الزمان أعم لم يكن الزمان للأشياء السرمدية لأنّها على وتيرة واحدة ولأنّ الشيء في الزمان إنّما يكون على معنى أنّه بالتقدّم والتأخّر، ويعد ابتداء كونه إلى انقضائه. وهذا المعنى غير موجود في الأشياء السرمدية.“[72] ويفسّر بينيس هذه الأمور بالإشارة إلى أنّ الزمان يقسم الأشياء الجزئية التي يطالها الكون والفساد، أمّا الدهر فهو يعد كلّيا وأبديا وسرمديا، فهو عدد حركات الأشياء السماوية التي لا يطالها التغيير بل هي حركتها دائما على وتيرة واحدة.[73]
وهذ التفسير الذي يقرّه بينيس بالاعتماد على الشروح القديمة وعلى النص الأرسطي نفسه، لا يستسيغه البغدادي، لذلك نجده يقرّر بوضوح أنّ الزمان هو اللازم الذاتي للموجودات سواء كانت متغيّرة أو أبديّة، وهنا لا نصطدم بالحواجز التي اصطدمت بها الفلسفة المشائيّة. وعليه، فإنّ الزمان لا يضاف إلى الموجودات الأبدية باعتبار أبديتها أو أزليتها، كما لا يضاف إلى الموجودات اللاأبدية باعتبار تغيّرها وكونها وفسادها، ولكن باعتبار زمان وجودها الذي هو قدر مشترك بين الموجودات جميعا سواء كانت أبدية أو متغيّرة. وهذا معناه أنّه حيثما تصوّرنا الوجود تصوّرنا معه مدّته وزمانه. ومن هذا المنطلق لم يجد البغدادي حرجا في أن يقرّر أنّه ”لا تتصور الأذهان وجودا ليس له مدة ولا زمان ولا وجود خالق ولا وجود مخلوق، فلا اعتبار بما يقوله اللسان من دون الذهن والعقل.“[74] وهو ما اضطرّ المشائيين أيضا لتجريد الخالق عن الزمان، لأنّ الزمان عندهم مقدار الحركة، وإذا كان الخالق لا يتحرّك فمعنى ذلك أنّه ليس في زمان. وهنا، يتساءل البغدادي قائلا: السرمد والزمان: هل هما معنيان متغايران أم هما مصطلحان يردان إلى معنى واحد؟
إنّ السرمد أو الدهر في جوهره ليس إلاّ زمانا، وكونه زمانا طويلا لا حركة فيه، أو زمانا نسبيّا فيه حركة لا يغير من جوهر الزمانية شيئا، إذ أنّ مثل هذه الاعتبارات إنّما تنشأ حينما نقيس أو نقارن بين المحرّك واللاّ متحرّك، وهذه المقايسة أو المقارنة لا تؤثّر في جوهر المدّة والدهر أو السرمد[75] لأنّ الاختلاف لا يعدو أن يكون سوى اختلافا في التسمية لا علاقة له بالشعور الحي. ويشدّد البغدادي على هذه الفكرة قائلا: ”والذين جردوا وجود خالقهم عن الزمان قالوا بأنه موجود في الدهر والسرمد، بل وجوده هو الدهر والسرمد، فغيروا لفظ الزمان وما تغيّر معناه، ولمّا قيل ما الدهر والسرمد؟ قالوا إنه البقاء الدائم الذي ليس معه حركة، والدوام من صفات المدة والزمان فغيّروا الاسم، والمعنى المعقول واحد، ينتسب إلى ما يتحرك وإلى ما لا يتحرك، فتختلف التسمية باختلاف النسبة للمعقول الواحد الذي هو المدة والزمان.“[76]
هكذا نستجلي وجها آخر من وجوه اعتراض البغدادي على أرسطو وعلى المشّائيين عموما، غير أنّه في مقابل ذلك لم يضع حدّا فاصلا بين الزمان والوجود فحسب، بل وأيضا بين الزمان كمعطى ثابت وقار وهو الزمان الذي يدرك قبليّا، والزمان الذي يقدّر الوجود وهو الذي يدخل في الوجود دخول السيلان، ويدرك من خلال الأحداث والتغيرات. وهذا معناه، أنّه إذا جاز لنا أن نقول بأنّ الزمان موجود، فلا مناص من النظر إليه على أنّه سيلان مستمر، وهي النتيجة التي انتهى إليها ، وعبّر عنها بقوله: ”فلولا الآن لما دخل الزمان في الوجود على الوجه الذي دخله.“[77] وعلى هذا النّحو من الاعتبار، إذا كان التصور المشّائي ينصرف إلى الحركة لينتهي إلى أنّ ”الأشياء السرمدية ليست في الزمان، لأنّ الزمان لا يشملها ولا يقيس وجودها.“[78] فإنّ فلسفة البغدادي تنصرف إلى الوجود بما هو حضور لأنّه لولا الآن لما كان ثمّت حضور، وإذا لم يكن ثمّت حضور، فلا وجود، وبهذا لا يدخل الزمان في الوجود إلاّ بواسطة الآن، أو بعبارة أخرى على صورة الحاضر. وبما هو كذلك، يمكن القول، إنّ الزمان الذي يقصده أبو البركات البغدادي في الأطروحة التي دافع عنها هو زمان الوجود الحاضر باستمرار أي الزمان الذي يدوم ويتدفق باستمرار، لا الزمان المكاني الخاضع لمعاني القبلية والبعدية في التغيّر أو في الحركة حتّى يمكن أن تنشأ المشكلات التي اصطنع لها المشاؤون تفرقة بين أمرين هما في الحقيقة واحد.
وفي كلّ الأحوال تبقى النفس هي ما به يمكن أن نفهم علاقة الوجود بهذا العائد دوما في شكل سيلان، أي بوصفها الموطن العميق لتلك العلاقة بين الوجود والزمان. وعلى ذلك، فإنّ مقام النّظر عند البغدادي، يتناظر داخله النقد الفيزيائي مع النقد المتعالي للتصوّرات المثالية والمجرّدة التي قدّمت لنا الزمان خارج الكائن، وقدّمت الكائن خارج الزمان، أي بما هو معنى مطلق ومجرّد، ليمنحنا بذلك فرصة الانتباه إلى ما في أنفسنا من وجود، وما في وجودنا من تجدّد وتصرّم وتدفّق وسيلان. وكلّ ذلك بلغة الوجود لا باللغة الفيزيائيّة التي تسيّج الزماني بمعني الحركة والسكون أو بلغة الماهيات أو بلغة المنطق التي تُسيّج الزّمان بمقولات الأين والمتى. ولذلك يمكن أن نقول هنا، لقد ترك لنا البغدادي تحليلا طريفا لأنّه مثّل مدخلا حاسما لإعادة النظر في الكوسموس الأرسطي ونظام العقول الأرسطيّة التي رصّعت سماء المشائيّة السينويّة وغيرها من العوالم التي كانت مهيمنة على الدوائر الفكريّة آنذاك خاصّة عالم الأفلاطونيّة والأفلاطونيّة المحدثة وممثّلي المدرسة الإسكندريّة الذين وصلوا بين الأفلاطونيّة المحدثة واللاّهوت المسيحي.
خاتمة
إجمالا، يمكن القول إنّ التعريف الذي ارتآه البغدادي للزمان يمنحه أهميّة نقديّة كبرى، ذلك أنّه ليس نتيجة قدرة معينة أو إرادة خالصة مستقلتين، وبالتالي عقليتين، طالما أنّ الزمان المُؤسّس على الشعور والمعارف القبلية هو ما يجعلنا ندرك لا طبيعة العلاقة التي تصلنا بأنفسنا فحسب، بل وأيضا طبيعة العلاقة التي تصلنا بنمط حضورنا. وعندئذ، يمكن القول إنّ مشكل الزمان—كما نجده عند البغدادي—لا يمكن أن يُفهم بوصفه موضوعا لنظر فيزيائي أو مجرّد إشكال منطقي، كما كان الشأن عند المشائيين والمتكلّمين، بل بوصفه مسألة وجود، ومسألة ذات تدرك ذاتها في الزمان. وعلى هذا الأساس، ليس الزمان—بالنسبة إلى الوجود—لغزا غامضا، وإنّما يتصيّر أكثر وضوحا، وضوح البداهة الكاشف عن حضور الذات لا وضوح البراهين أو الحجج المنطقية. وربّما على هذه الجهة وحدها يمكن الحديث عن منعرج في تمثّل مفهوم الزمان عند عالمنا الفيلسوف، خاصّة وأنّ أطروحته لم تحرج التصورات المشائيّة السائدة آنذاك فقط، تلك التي جعلت الزمان يدور في فلك الحركة ولا يبرحها، بل ومهّدت للتظنّن على فكرة السرمد والدهر، فضلا عن كونها عرّت العلاقة بين معقول الوجود ومعقول الزمان. فإذا كان الزمان عند صاحب المعتبر يدخل الوجود دخول ما هو في السيلان، فكيف يلتقي الزمان بالوجود الإلهي ويتقدّر به؟
Bibliography
Adamson, Peter. “Galen and Abū Bakr al-Rāzī on Time.” In Medieval Arabic Thought: Essays in Honor of Fritz Zimmermann. Edited by R. Hansberger, C. Burnett, and M. Afifi al-Akiti, 1–14. London: Warburg Institute, 2012
Aristutālīs. al-Tabīʿah, Tarjamat Isḥāq ibn Ḥunayn. Edited by ʿAbd al-Raḥmān Badawī. Volume 1. Cairo׃ al-Hayʾah al-Miṣrīyah al-ʿĀmmah li-l-Kitāb, 1984.
al-Baghdādī, Abū al-Barakāt. al-Kitāb almuʻʿtabar fī al-Ḥikmah al-ilahiyyah. Beirut׃ Manshūrāt al-Jamal, 2012.
al-Drīdī, Jalāl. Ibn al-Haytham wa-fikrat al-ḥadāthah. Tunis׃ Dār Zaynab li-l-Nashr, 2022.
al-Iṣfahānī, Abū ʿAlī al-Marzūqī. Kitāb al-azminah wa-al-amkinah. Beirut׃ Dār al-Kutub al-ʿIlmīyah, 1996.
al-Jābirī, Muḥammad ʿĀbid. Madkhal ilā Falsafat al-ʿUlūm, al-ʿaqlāniyyah al-muʿāṣirah wa-taṭawwur al-Fikr al-ʿIlmī. Beirut׃ Markaz Dirāsāt al-Waḥdah al-ʿArabīyah, 2006.
al-Rāzī, Abū Bakr Muḥammad ibn Zakarīyā. Rasāʼil falsafīyyah. Beirut׃ Manshūrāt Dār al-Āfāq al-Jadīdah,1982.
al-Rāzī, Fakhr al-Dīn. al-Mabāḥith al-mashriqīyyah fī ʿilm al-ilāhiyyāt wa-al-ṭabīʿiyyāt. Volume 2. Qom׃ Intishārāt Bīdār, 1370.
_______. Sharḥ ʿUyūn al-Ḥikmah. 5 Volumes. Edited by ʿAhmad Ḥijāzī wa-ʿAhmad al-SaqqāhCairo׃ Manshūrāt Maktabat al-Anjlū al-Miṣrīyyah, 1986.
_______. al- Maṭālib al-ʿĀliyyah. Volume 5. Edited by ʿAhmad Ḥijāzī wa-ʿAḥmad al-Saqqā. Beirut: Dār al-Kitāb al-ʿArabī, 1987.
al-Sharīf, Tawfīq. “al-Zamān wa al-daymūmah ʿind Bergson. ”al-Majallah al-Tūnisīyyah li-l-Dirāsāt al-falsafīyyah, n° 12, (1992)׃ 100–111.
al-Shārnī, ʿUmar. al-Mafhūm fī mawḍiʿihi aw fī al-ʿalāqah bayna al-falsafah wa-al-ʿilm. Tunis׃ Dār al-Janūb li-l-Nashr, 1992.
al-Shīrāzī, Ṣadr al-Dīn. al-Ḥikmah al-mutaʿāliyyah fī al-asfār al-ʿaqlīyyah al-arbaʿah. Beirut׃ Dār Iḥyāʾ al-Turāth al-ʿArabī, 1990.
al-Ṭūsī, Naṣīr al-Dīn. Sharḥ al-Ishārāt wa-al-tanbīhāt li-Abī ʿAlī ibn Sīnā. Edited by Sulaymān Dunyā. Beirut׃ Muʾassasat al-Nuʿmān lil-Ṭibāʿah wa-al-Nashr wa-al-Tawzīʿ, 1992.
Ibn Sāsī, Muḥammad. “Masʾalat al-Zamān ʿinda Ibn Sīnā. ” al-Majallah al-Tūnisīyah lil-Dirāsāt al-falsafīyyah, n° 25/26, (2000) ׃ 81–91.
Ibn Sīnā, Abū ʿAlī. al-Shifāʼ, al-ilāhiyāt 1-2. Edited by al-Ab Qanawātī wa-Saʿīd Zāyid. Cairo׃ Dār al-Kitāb al-ʿArabī, 1970.
_______. al-Samāʿ al-ṭabīʿī, Edited by Saʿīd Zāyid, Cairo׃ Manshūrāt al-Hayʼah al-Miṣrīyah al-ʿĀmmah li-l-Kitāb, 1983.
_______. ʿUyūn al-Ḥikmah. Edited by ʿAbd al-Raḥmān Badawī. Kuwait-Beirut׃ Wakālat al-Maṭbūʿāt-Dār al-Qalam, 1980.
Bachelard, Gaston. Jadalīyat al-zaman. Tarjamat Khalīl Aḥmad Khalīl. Beirut׃ al-Muʼassasah al-Jāmiʿīyah lil-Dirāsāt wa-al-Nashr wa-al-Tawzīʿ, 1992.
Badawī,ʿAbd al-Raḥmān. al-Zamān al-wujūdī, Beirut׃ Dār al-Thaqāfah, 1973.
_______. Emmanuel Kant. Kuwait׃ Wakālat al-Maṭbūʿāt, 1977.
Baron Vieillard. Le problème du temps. Sept études, Paris׃ Vrin, 1995.
Bergson, Henri. L’évolution créatrice. Paris׃ Presses Universitaire de France, 1959.
_______. Essai sur les données immédiates de la conscience. Paris׃ Presses Universitaire de France, 1970.
_______. La pensée et le mouvant. Paris׃ Presses Universitaire de France, 1975.
Deleuze, Gille. Le bergsonisme. Paris׃ Presses Universitaire de France,1966.
Goldschmidt, Victor. Temps physique et temps tragique chez Aristote. Paris׃ Vrin, 1982.
Kant, Emmanuel. Critique de raison pure. Translated by Tremesaygues et B. Pacaud. Paris׃ PUF, 1950.
Naṣr, Sayyid Ḥusayn. Muqaddimah ilā al-ʿaqāʼid al-kawnīyyah al-Islāmīyah. Tarjamat Sayf al-Dīn al-Qayṣar. Damascus׃ Dār al-Ḥiwār li-l-Nashr wa-al-Tawzīʿ, 1991.
Pinès, Salomon. Madhab al-dhdhahr ʿinda al-Muslimīn. Translated by Muḥammad ʿAbd al-Hādī Abū Rīdah. Cairo׃ Maktabat al-Nahḍah al-Miṣriyyah, 1946.
_______. Nouvelles Etudes sur Awhad al-Zamâm Abu-l-Barakât al-Baghdâdî. Paris׃ Librairie Durlacher, 1955.
Platon. Timée. Critias. Edited by Albert Rivaud, Translated by Fuʼād Jirjī brābrh. Damascus׃ al-Hayʼah al-ʿĀmmah al-Sūrīyah li-l-Kitāb, 2014.
للتوثيق
الدريدي، جلال. ”أبو البركات البغدادي ومشكل الزمان.“ ضمن موقع الفلسفة والعلوم في السياقات الإسلامية، الرابط <https://philosmus.org/archives/3785>
جلال الدريدي
[1] أرسطوطاليس، الطبيعة، ترجمة اسحاق بن حنين، حقّقه وقدّم له عبد الرحمان بدوي، ط.2 (مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984).
[2] ابن سينا، السماع الطبيعي، تصدير ومراجعة إبراهيم مدكور، تحقيق سعيد زايد (القاهرة: منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983). انظر أيضا: محمد بن ساسي، ”مسألة الزمان عند ابن سينا“، المجلة التونسية للدراسات الفلسفية، عدد 25/26 خاص بالزمان (2000)، 84.
[3] أبو البركات البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة (بيروت: منشورات الجمل، 2012).
[4] ”في الزمان على وجه يليق بهذا العلم“ هو العنوان التي اختاره البغدادي كعنوان للفصل الثامن من الجزء الثالث: البغدادي، كتاب المعتبر في الحكمة الإلهيّة، 591. وهذا يقترض أن مقاربة عالمنا الفيلسوف لمسألة الزمان ستكون مختلفة عن سابقاتها، ربّما لأنّها لم تعتبره على وجه يليق به.
[5] في إشارة إلى ما أوردناه ضمن دراستنا لنظرية ابن الهيثم في المكان، وكيف مثلت هذه الأطروحة، لا مدخلا لإعادة النظر في معاني الخلاء والملأ والمكان فحسب، بل وأيضا بوصفها مدخلا للتظنّن على التوجه الحسّي للفلسفة المشائيّة. وبذلك يلتقي البغدادي مع صاحب المناظر في كونهما كشفا لنا صورة متحرّرة من عباءة التّقليد الأرسطي وأوهام الحسّ المشترك ومقولات الكيف. انظر: جلال الدريدي، ابن الهيثم وفكرة الحداثة، ط.1 (تونس: دار زينب للنشر، 2022)، 134.
[6] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 282.
[7] تعدّ الفلسفة الأرسطية أحد أبرز الأنساق الكبرى التي جعلت مفهوم الزمان يرزح تحت وطأة المكان والحركة ومقولات القبل والبعد. فمنذ أرسطو عرف الزمان بوصفه زمانا للحركة، فكانت وظيفته جعل القياس ممكنا حيث يكون لحظة ضروريّة في تعريف الحركة التي هي الموضوع ذاته لعلم الفيزياء. انظر: أرسطو، الطبيعة، ج.1: 419.
[8] في تمييزه بين تسمية هذا العلم بالعلم الإلهي وعلم ما بعد الطبيعة، يخلص البغدادي إلى القول: ”وبالجملة فكلامه (علم ما بعد الطبيعة) في كل عام وشامل وذلك هو الموجود بما هو موجود وأوصافه التي تقال عليه من حيث هو كذلك كالواجب الوجود والممكن الوجود والعلة والمعلول والواحد والكثير للبدأ والمبتدأ فنظره ينتهي إلى المبدأ الأول الموجب لسائر الموجودات وذلك هو الإله تعالى الواجب الوجود بذاته، فمن أجله ومن أجل ما قلناه أولا يعرف هذا العلم بالعلم الإلهي. ومن أجل ما اشتمل عليه نظره من الكليات يسمى العلم الكلي ومن أجل أنه ينظر في غير المحسوسات من الموجودات يسمى علم ما بعد الطبيعة، فعلى هذا يشتمل نظر هذا العلم.“ البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 577–578.
[9] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 284.
[10] شالمو بينيس، مذهب الذّرّة عند المسلمين، نقله عن الألمانيّة محمد عبد الهادي أبو ريدة (القاهرة: مكتبة النهضة المصريّة، 1946)، 71–73.
[11] انظر: أفلاطون، الطيماوس واكريتيس، تحقيق وتقديم ألبار ريفو، ترجمة فؤاد جرجي برابرة، ط.2 (دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب، 2014)، 215–219. وأيضا: فخر الدين الرازي، المطالب العالية، تحقيق أحمد حجازي السقا (بيروت: دار الكتاب العربي، 1987)، ج. 5: 86. وممّا هو جدير بالملاحظة، هنا، أنّه إذا كان البغدادي يلتقي مع أفلاطون في فكرة غيريّة الزمان المطلق (الأزل) للحركة وأسبقيته عليها واستقلاله عنها، إلاّ أنّه يختلف عنه في مسألة التّمييز بين الزمان والأزل وحصر الزمان في عالم الموجودات المتحركّة واستثناء الموجودات الخالدة، وكذلك في فصله الزمان عن معطيات الشعور وفكرة الوجود، أي في اعتبار الزمان جوهر مفارق، والتي رام من خلالها إبطال هذا التّمييز بين معاني الزمان والأزل، وبالمثل في علاقته بالتّمييز المشائي بين معاني الزمان والسرمد والدهر والمدّة. لأنّ المدّة والسرمد والأزل والدهر عند صاحب المعتبر ليست إلاّ أسماء مختلفة لمسمّى واحد هو زمان الوجود.
[12] Pinès, Nouvelles Etudes sur Awhad al-Zamân Abu-l-Barakât al-Baghdâdî, (Paris׃ Librairie Durlacher,1955), 25.
يرى الرازي الطبيب أنّ الزمان جوهر ممتدّ وقديم يجري، وهو يردّ على الفلاسفة الذين يعرّفون الزمان بأنّه مقدار الحركة، بقوله: ”لو كان الزمان عدد حركات الجسم، لما جاز أن يتحرك متحركان في زمان واحد بعددين متفاوتين.“ أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، رسائل فلسفية، ط. 5 (بيروت: منشورات دار الآفاق الجديدة، 1982)، 266.
[13] والرازي في تقسيمه هذا، إنّما يتجاوز بذلك التعريف السينوي للزمان بأنّه مقدار الحركة. أو أنّه فصل بين هذا التعريف لأنّه يخصّ الزمان الطبيعي النسبي أو المحصور أو المضاف، وبين الزمان المطلق (المدة أو الدهر)، فالزمان المقدر بالحركة كما يقول الاصفهاني: ”يبطل ببطلان المتحرك، ويوجد بوجوده إذ هو مقدر حركته، بينما الزمان المطلق هو المدة قدرت أم لم تقدر. فليس الحركة فاعلة المدة بل مقدرتها، ولا المتمكن فاعل المكان بل الحال فيه.“ الاصفهاني، كتاب الأزمنة والأمكنة، ط.1 (بيروت: دار الكتب العلمية، 1996)، 109. وبخصوص تصور الرازي الطبيب للزمان وأصوله خصوصا لدى جالينوس نحيل القارئ إلى بحث الأستاذ بيتر آدمسون:
Adamson. Peter, “Galen and Abū Bakr al-Rāzī on Time,” in Medieval Arabic Thought: Essays in Honor of Fritz Zimmermann, ed. R. Hansberger, C. Burnett, M. Afifi al-Akiti (London: Warburg Institute, 2012), 1–14.
[14] بينيس، مذهب الذرة عند المسلمين، 53–54.
[15] Pinès, Nouvelles Etudes sur Awhad al-Zamâm Abu-l-Barakât al-Baghdâdî, 25.
[16] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 286.
[17] “C’est une réponse à Aristote qui cite l’exemple des dormeurs légendaires de Sardes pour montrer qu’il n’est pas de temps sans mouvements (phys., IV, 11, 218b).” Pinès, Nouvelles Etudes sur Awhad al-Zamân Abu-l-Barakât al-Baghdâdî, 25.
لمزيد التوسع في هذا الأمر، بالإمكان الرجوع أيضا إلى: عبد الرحمان بدوي، الزمان الوجودي (بيروت: دار الثقافة، 1973)، 59.
[18] يقول ابن سينا في عبارة صريحة أنّه ”ليس كل ما وجد مع الزمان فهو فيه.“ أبو علي بن سينا، النجاة، ط.2 (مصر: مطبعة السعادة، 1938)، 118. لأنّ الأشياء الموجودة في الزمان هي الموجودات المتحرّكة، أمّا الموجودات غير المتحرّكة فليست في الزمان. وكذلك الموجودات لا تكون في الزمان مباشرة، ولكن فيما يبدو، هناك تدرج: ”فالشيء الموجود في الزمان. أما أولا: فأقسامه وهو الماضي والمستقبل، وأطرافه وهي الآنات، وأما ثانيا: فالحركات، وأما ثالثا: فالمتحركات. فإن المتحركات في الحركة، والحركة في الزمان، فتكون المتحركات—الموجودات— بوجه ما في الزمان.“ ابن سينا، النجاة، 118. ومن هنا، تكون الموجودات في الحركة أولا، لتكون بعد ذلك في الزمان ”فيكون الآن فيه كالوحدة في العدد، والماضي والمستقبل فيه كالمعدودات في العدد.“ ابن سينا، النجاة، 118. ”أمّا السكون فهو أمر عدمي لا يتقدر بالزمان لذاته، ولكن لأجل أن الحركتين تكتنفانه، ويحصل له ضرب من التقدّم والتأخّر، فلا جرم يتوهم وقوعه في الزمان، بينما الزمان لا يتعلّق به، ولا يقدره إلاّ بالعرض.“ انظر: صدر الدين الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ط.4 (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1990)، المجلّد الثالث، الجزء الثالث من السفر الأول، 182.
[19] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 284.
[20] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 594.
[21] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 611.
[22] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 592.
[23] راجع في هذا الصدد الشرح الذي يقدّمه نصير الدين الطوسي (ت. 672ه/1274م) الذي يميّز بين الإنية والماهية تمييزا واضحا قائلا: ”واعلم أن الزمان ظاهر الإنية خفي الماهية.“ نصير الدين الطوسي، شرح الإشارات والتنبيهات لأبي علي بن سينا، تحقيق سليمان دنيا (بيروت: مؤسسة النعمان للطباعة والنشر والتوزيع، 1992)، 500.
[24] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 166.
[25] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 283.
[26] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 282.
[27] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 612.
[28] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 611–612.
[29] لعلّه ليس مصادفة أن تقترن وجهة الفينومينولوجيا بمشكلة الزمان الذي فيه ينكشف السؤال الفينومينولوجي بوضوح شديد، أي بوصفه طريقا للتفكير في كيفية تمظهر الوعي ذاته. وعلى ذلك، فإنّ التحليلات الفينومينولوجيّة، يتناظر داخلها نقد المتعالي الذي قدّم لنا الكائن خارج الزمان، أي بما هو وعي مطلق ومجرّد، مع النقد الجذري للنزعة الواقعية التي ربطت الزمان بالأشياء والظواهر والحركة.
[30] يرى بينيس أنّه ثمّة، هاهنا، إمكانية للمقارنة بين البغدادي وكانط بخصوص موضوع الزمان، وفي هذا السياق يؤكّد بينيس أنّه رغم التباين الكبير بين أطروحة كانط والبغدادي في تخريج فكرة الزمان إلاّ أنّهما تعودان جميعا إلى اجتهاد من نفس الجنس، وإن كانتا تصدران من منطقتي تفكير جدّ متباعدين. راجع في هذا الصدد:
Pinès, Nouvelles Etudes sur Awhad al-Zamân Abu-l-Barakât al-Baghdâdî, 33–34.
[31] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 280–281.
[32] Emmanuel Kant, Critique de raison pure, traduction française avec notes par A. Tremesaygues et B. Pacaud, (Paris׃ PUF, 1950), 61.
[33] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 611.
[34] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 612.
[35] Pinès, Nouvelles Etudes sur Awhad al-Zamân Abu-l-Barakât al-Baghdâdî, 33.
[36] البغدادي، كتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 284.
[37] Kant, Critique de raison pure, 61.
[38] Kant, Critique de raison pure, 61.
[39] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 594.
[40] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 601.
[41] انظر في هذا الصدد:
David Hume, Traité de la nature humaine, traduction de Philippe Baranger et Philippe Saltel, (Paris׃ GF-Flammarion 1995), 91.
[42] Henri Bergson, Essai sur les données immédiates de la conscience, (Paris׃ PUF, 1970), 170.
[43] Henri Bergson, La pensée et le mouvant (Paris׃ PUF, 1975), 30–31.
[44] ربّما قد يكون من المفيد أن نسجّل، على هذه الفكرة، الملاحظات الموجزة التالية: بخلاف الزمن المقيس، الآلي والمتجانس، يؤكّد برغسون أنّه حينما نكون بصدد ”الديمومة الخالصة“، فإنّه لن يكون في مقدورنا التحدّث عن حالات أو لحظات أو آنات، وذلك لأنّ الديمومة لا تكفّ عن التدفّق والسيلان فهي بطبيعتها لا تقبل القسمة أو التجزئة. وتبعا لذلك، فإنّ اختيار برغسون لمفهوم الـ”ديمومة“ لم يكن اختيارا اعتباطيّا، ذلك أنّه إذا كان الزمان اسما لا يناسبه—في اللسان الفرنسي آنذاك—أي فعل، فإنّ الديمومة تحتفظ لدى برغسون—على خلاف الزمان—بالمعنى الحيّ والنشيط للفعل الذي تتأتّى منه. وبما أنّ كلّ زمان مقيس هو زمان كمّي مكوّن من لحظات مماثلة موحّدة الواحدة في الأخرى بواسطة علاقة مجرّدة تجعل من كلّ ”جزء“ يكون مستقلاّ عن الأجزاء الأخرى ومتحيّزا ضمن تسلسل متّصل قابل للانقسام إلى ما لا نهاية له، فإنّ الزمان الفعلي الذي نحياه يكون كثرة كيفيّة غير مقلوبة وغير متكررة وغير متجزئة ولا علاقة لها بالعدد والامتداد لأنّ الأعداد والرياضيات لا تُبقي من الزمان إلاّ المعيّة أو التزامن ولا تحتفظ من الحركة إلاّ بالثبات والسكون. وعليه يتحوّل التتالي إلى تجاور وتلاصق. لمزيد التوسع راجع في هذا الصدد:
Vieillard Baron J.–L., Le problème du temps. Sept études, (Paris׃ Vrin, 1995), 22.
[45] Henri Bergson, L’évolution créatrice, (Paris׃ PUF,1959), 4.
[46] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 288.
[47] ذلك الحدس الذي أشار إليه صاحب المعتبر صراحة باستحضاره تجربة أهل الكهف كما أشرنا إلى ذلك آنفا. البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 284.
[48] غاستون باشلار، جدلية الزمن، ترجمة خليل أحمد خليل، ط.3 (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1992)، 14.
[49] توفيق الشريف، ”الزمن والديمومة عند برقسون،“ المجلة التونسية للدراسات الفلسفية، السنة العاشرة، العدد 12 (ماي 1992)، 102.
[50] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 285.
[51] Gille Deleuze, Le bergsonisme, (Paris׃ PUF, 1966), 6.
[52] عمر الشارني، المفهوم في موضعه أو في العلاقة بين الفلسفة والعلم (تونس: دار الجنوب للنشر، 1992)، 21. يقول برغسون: إنّ المفهوم بهذا المعنى ”خليط.“ وهو ”خليط“ يتألف من عنصرين: أحدهما حقيقي والآخر باطل. فهنالك من جهة الإدراك الحسي ومن جهة أخرى التصوّر الفكري. وعلينا أن نبتعد عن هذا الأخير لأنّه لاحق وتابع، وأن نتشبث بالأوّل لأنّه أصلي و”مباشر.“ انظر: الشارني، المفهوم في موضعه، 22.
[53] وفي توضيح هذا الأمر يقول البغدادي في فصل النفس وماهيتها: ”فأمّا معرفة الإنسان الأولى بنفسه فإنّها معرفة لا تدخل فيما تضمنه هذا الحدّ—أي الحد الذي يطلب فيه الرهان ويستقى فيه النظر—بل معرفة بغير تمييز على أنّ الاكتناه بها أشدّ والتحقيق لها أكثر والمعرفة بها أقدم، فإنّ معرفة الإنسان بنفسه التي هي ذاته وهويته تتقدم على معرفته بكل ما يعرفه، فإنّك لو فرضت إنسانا خلا بنفسه عن كل مرئي ومسموع ومدرك من المدركات لقد كان شعوره بنفسه له موجودا وعنده حاضرا لا يغيب عنه في كل فعل يفعله الإنسان يشعر بنفسه معه ويدل بلفظه عليها مع دلالته عليه.“ البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 459.
[54] تتّضح هذه الفكرة أكثر عند برغسون الذي ذهب إلى التأكيد ”أنّ المسائل المتعلقة بالذات والموضوع، بتمييزها واتحادها ينبغي أن تُطرح بالرجوع إلى الزمان لا إلى المكان.“ ذكره توفيق الشريف، ضمن: الزمن والديمومة عند برقسون، 111.
[55] ابن سينا، الشفاء الالهيات، تحقيق الأب قنواتي وسعيد زايد(القاهرة: دار الكتاب العربي، 1970)، 117 وما بعدها.
[56] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 721–722.
[57] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 595.
[58] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 594–595.
[59] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 612.
[60] جعل قولدشميث Victor Goldschmidt من مفهوم الآن وتحليلات أرسطو له مفهوما مركزيا للزمان الفيزيائي القابل للانقسام والتقدير والزمان المعيش غير القابل للتجزئة والذي يعطى دفعة واحدة. ومعلوم أنّ مفهوم الآن يدخل في حدّ الزمان دون أن يكون من الزمان. ولذا فهو يقسّمه من ناحية القبل والبعد فيزيائيا ويصل بين الآنات في نفس الوقت (الفصل والوصل) ويمكن أن يكون دفعة كالإحساس والمتعة … دون انقسامية. راجع:
Victor Goldschmidt, Temps physique et temps tragique chez Aristote(Vrin, Paris, 1982), 187–197.
[61] قولدسميث، الزمن الفيزيائي، 147–187. (الفصول الأخيرة من القسم الأول المتعلقة بمسألة الآن…).
[62] إنّ الزمان كما يرى الشيخ الرئيس، هو كميّة متّصلة يمكن تقسيمها إلى ما لا نهاية بالقوة، من غير أن نصل إلى ”ذرة الزمان.“ ونجد برهان ذلك في ملاحظة جسمين ينطلقان من نقطة واحدة ولكنهما لا يحافظان على سرعة الانطلاق ذاتها بل يسبق أحدهما الآخر. ويعتمد هذا البرهان على اتصال الحركة، ولهذا فهو يتضمن اتصال الزمان بشكل غير مباشر. لكن، وبما أن الزمان هو وجود متّصل، فإنّه يتوجّب عليه—كما هو الحال مع المكان—أن يكون له فصل أو تقسيم يسميه ابن سينا بـ”الآن“ أو اللحظة. ووجود هذه اللحظة هو بالقوة والتوهم فقط وليس بالفعل. وكما أنّه بالإمكان الاستمرار في تقسيم الخط بغض النظر عن طول هذا الخط، كذلك من الممكن تقسيم اللحظة إلى أجزاء مهما كان زمن استمرارها ضئيلا. راجع في الصدد: سيد حسين نصر، مقدمة إلى العقائد الكونية الإسلامية، ترجمة سيف الدين القيصر، ط.1 (سورية: دار الحوار للنشر والتوزيع، 1991)، 163.
[63] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 286.
[64] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 289.
[65] عبد الرحمان بدوي، الزمان الوجودي (بيروت: دار الثقافة، 1973)، 90.
[66] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 288.
[67] Bergson, Essai sur les données immédiates de la conscience, 156.
[68] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 595.
[69] غير بعيد عن صاحب المعتبر وبتأثير منه، يذهب الرازي إلى أنّ ما ”قاله الشيخ الرئيس وهو أن معية المتغير مع المتغير تكون بالزمان، ومعية الثابت مع المتغير بالدهر، فيكون الدهر محيطا بالزمان، ومعية الثابت مع الثابت بالسرمد، فيكون السرمد مباينا للزمان، لأن هذه التهويلات خالية عن التحصيل والتحقيق.“ فخر الدين الرازي، المباحث المشرقية في علم الاليات والطبيعيات، ط.1 (قم: انتشارات بيدار، 1370ه)، ج.1: 645. ويضيف في موضع آخر ”فقد ظهر أن الناصرين لمذهب أرسطو طاليس في أن الزمان مقدار الحركة لا يمكنهم التوغل في شيء من مضايق المتعلقة بالزمان، إلا بالرجوع إلى مذهب الإمام أفلاطون.“ فخر الدين الرازي، شرح عيون الحكمة، حققه أحمد حجازي وأحمد السقا (القاهرة: منشورات مكتبة الانجلو المصرية، 1986)، ج.2: 148.
[70] يرى ابن سينا في عبارة صريحة أنّه ”ليس كل ما وجد مع الزمان فهو فيه.“ ابن سينا، النجاة، ج.2: 118.
[71] أرسطوطاليس، الطبيعة، ج.1، 452.
[72] أرسطوطاليس، الطبيعة، ج.1، 453.
[73] Pinès, Nouvelles Etudes sur Awhad al-Zamân Abu-l-Barakât al-Baghdâdî,64.
[74] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 595.
[75] في إشارة إلى ما ذهب إليه الشيخ الرئيس الذي ميّز بين معاني الزمان والدهر والسرمد من جهة نسبة كل واحد منها إلى الحركة، أي من جهة ثباتها وتغيرها. يقول ابن سينا: ”الجسم الطبيعي في الزمان لا لذاته، بل لأنه في الحركة والحركة في الزمان، وذوات الأشياء الثابتة، وذوات الأشياء الغير الثابتة من جهة، إذا أخذت من جهة ثباتها لم تكن في الزمان، بل مع الزمان. ونسبة ما مع الزمان—وليس في الزمان—إلى الزمان هو الدهر، ونسبة ما ليس في الزمان إلى ما ليس في الزمان من جهة ما ليس في الزمان الأوْلى به أن يسمى سرمدا.“ ابن سينا، عيون الحكمة، حققه وقدّم له عبد الرحمان بدوي، ط.2 (الكويت-لبنان: وكالة المطبوعات-دار القلم، 1980)، 28.
[76] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 595.
[77] البغدادي، الكتاب المُعتبر في الحكمة الإلهيّة، 289.
[78] بدوي، الزمان الوجودي، 70.
مقالات ذات صلة
في مشروعية الكلام السني ضدا على إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي (ت.505هـ/1111م): قطعة من موسوعة الأسرار والعبر لأبي بكر الطرطوشي (ت.520هـ/1126م)، تعريفٌ وتوصيف
On the Legitimacy of Sunni Theology against Abū Ḥāmid al-Ghazālī’s Iḥyāʾ ʿUlūm al-Dīn (d. 505/1111): A Section from Abū Bakr al-Ṭurṭūshī’s al-Asrār wa-l-ʿIbar (d. 520/1126) - Introduction and Description Fī Mashrūʿiyyat al-Kalām al-Sunnī Ḍiddan ʿalā Iḥyāʾ ʿUlūm al-Dīn...
منهج الغزالي في التأليف في علم المنطق
Al-Ghazālī’s Methodology in His Writings on Logic Manhaj al-Ghazālī fī al-Taʾlīf fī ʿIlm al-Manṭiq منهج الغزالي في التأليف في علم المنطق محمد رويMohamed Roui جامعة عبد الملك السعديUniversité Abdelmalek Essaadi ملخص: تتناول هذه الدراسة معالم منهج أبي حامد الغزالي...
المنطق في الحضارة الإسلاميّة
المنطق في الحضارة الإسلاميّة خالد الرويهبKhaled El-Rouayheb جامعة هارفارد-كمبريدجHarvard University-Cambridge ملخص: ”المنطق في الحضارة الإسلامية“ لخالد الرويهب (جامعة هارفارد بكمبريدج) هي في الأصل محاضرة بالعربية ألقيت في مؤسسة البحث في الفلسفة العلوم في...
مكانة ”الالتباس“ في الثقافة العربية الإسلامية في عصرها الكلاسيكي: بواكير منظور جديد
Navigating Ambiguity: Exploring the Role of Uncertainty in the Classical Arab-Islamic Culture Makānat Al-Iltibās fī al-Thaqāfah al- ʿArabiyya al-Islāmiya Fī ʿAṣrihā al-Klāsīkī:Bawākīr Manẓūr Jadīd مكانة ”الالتباس“ في الثقافة العربية الإسلامية في عصرها الكلاسيكي بواكير...
أثر فلسفة ابن رشد في الكلام الأشعري المغربي: دراسة في المنجز حول فكر أبي الحجاج يوسف المكلاتي (ت.626هـ/1229م)
The Impact of Ibn Rushd's (Averroes’) Philosophy on Maghribi Ashʿarī KalāmCurrent State of Studies on al-Miklātī (d.626/1229) Athar Falsafat Ibn Rushd fī al-Kalām al-Ashʿarī al-Maghribī: Dirāsa fī al-Munajaz ḥawl Fikr Abī al-Hajjāj Yusuf al-Miklatī (626/1229) Majda...
في مقاربة فلسفة الفعل عند الفخر الرازي: مراجعة نقدية لمقالة ”فلسفة الفعل ونظرية العادة التاريخية عند المتكلمين“
On the Approach to the Philosophy of Action in Fakhr al-Dīn al-Rāzī:A Critical Review of “Falsafat al-fiʿl wa-naẓarīyyat al-ʿādah al-tārīkhīyyah ʿinda al-mutakallimīn” Fī muqārabah Falsafat al-fiʿl ʿinda Fakhr al-Dīn al-Rāzī:Murājaʿat naqdīyyah li-maqālat “Falsafat...
صورة العقل عند الشكّاك بين القديم والوسيط
Ṣūrat al-ʿaql ʿinda al-shukkāk bayna al-qadīm wa-al-wasīṭ Reason in the Ancient Skeptics and its Impacts during the Medieval Era صورة العقل عند الشكّاك بين القديم والوسيط سعاد جوينيجامعة تونس، تونس Souad JouiniUniversité de Tunis, Tunis Abstract: The creativity...
مشروعية النظر العقلي في تقرير العقائد عند المتكلمين: فخر الدين الرازي نموذجًا
Machrūʿiyat al-naẓar al-ʿaqlī fī taqrīri al-ʿaqāʾid ʿinda al-mūtakalimīn:fakhr al-Dīne al-Rāzī namūdhajan The legitimacy of Speculated Reasoning from the Perspective of Fakhr al-Dīne al-Rāzī مشروعية النظر العقلي في تقرير العقائد عند المتكلّمين: فخر الدين الرازي...
”ما هي الأعمال الفلسفية اليونانية القديمة […] التي ندين للعرب في أول معرفتنا بها؟“: عودة إلى نقاش ”قديم“
“Which of the works of the ancient Greek philosophers [...] do we owe the first knowledge to the Arabs?” Revisiting an “old” Dispute “Mā hiya al-Aʿmāl al-Falsafīyah al-Yūnānīyah al-Qadīmah [... ] allatī Nadīn lil-ʿArab fī Awwal Maʿrifitinā bihā? ” ʿAwdah ilá Niqqāsh...
ابن الهيثم والفلسفة: تأمّلات في سيرته الذاتية
Ibn al-Haytham and PhilosophyReflections on his Autobiography Ibn al-Haytham wa al-falsafahTaʾamulāt fī sīratih al-dhātiyyah Jalel Dridi ابن الهيثم والفلسفةتأمّلات في سيرته الذاتية[✯] جلال الدريدي Abstract: There is no shadow of doubt that Ibn al-Haytham is a great...