المنطق في الحضارة الإسلاميّة
المنطق في الحضارة الإسلاميّة
خالد الرويهب
Khaled El-Rouayheb
جامعة هارفارد-كمبريدج
Harvard University-Cambridge
ملخص: ”المنطق في الحضارة الإسلامية“ لخالد الرويهب (جامعة هارفارد بكمبريدج) هي في الأصل محاضرة بالعربية ألقيت في مؤسسة البحث في الفلسفة العلوم في السياقات الإسلامية. موضوع المحاضرة، كما يشير إلى ذلك العنوان، تطور المنطق وتأثيره في العالم الإسلامي؛ وهي تغطي فترة زمنية مهمة تمتد من القرن التاسع إلى بدايات القرن العشرين. يستكشف الرويهب فيها كيفية تعامل النظار في العالم الإسلامي مع مجال المنطق وإسهاماتهم فيه، لا سيما فيما يتعلق بالتقاليد الفلسفية اليونانية. وعلى الرغم من قصر نص المحاضرة، فإن الرويهب استطاع أن يقف فيها على خمسة جوانب أساسية: فقد ركز أولا على التطور التاريخي لهذه الصناعة، حيث يتتبع الرويهب تطور المنطق في العالم الإسلامي، بدءاً من حركة الترجمة في الخلافة العباسية، حين تُرجمت الأعمال اليونانية، وخاصة أعمال أرسطو، إلى اللغة العربية؛ وكيف تطور هذا المنطق بعد ابن سينا ليأخذ أبعادا جديدة تماما، وكيف صار الاهتمام بالمنطق في أطراف العالم الإسلامي، وتفاعل بعض مدارسه مع تحولات هذه الصناعة في أوروبا. ويغطي ثانيا الشخصيات المنطقية الرئيسية وإسهاماتها في المنطق، حيث يناقش باختصار إنجازات مناطقة العالم الإسلامي البارزين مثل الفارابي، وابن سينا، وابن رشد، مسلطًا الضوء على كيفية توسعهم في عمل أرسطو وانتقادهم أحيانًا، بل وانفصالهم عنه تماما. ويتناول أيضًا شخصيات ومدارس فكرية أقل شهرة، ويقدم نظرة عامة واسعة النطاق عن المشهد الفكري. ويقف ثالثا عند تكامل المنطق مع مجالات الفكر الإسلامي، حيث يعد التفاعل بين المنطق وعلم الكلام والفقه والعلوم الأخرى موضوعًا مركزيًا. ويوضح الرويهب كيف أدمج المنطق في مختلف مجالات العلوم الإسلامية. ورابعا، تسلط المحاضرة أيضا أضواء على انتقال المعرفة المنطقية والأساليب التربوية المستخدمة في تدريس المنطق. وأما الجانب الخامس من المحاضرة فهو يتناول تراث المنطق الإسلامي وتأثيره على التطورات اللاحقة في العالم الإسلامي وخارجه، بما في ذلك استقباله في أوروبا الوسطوية.
هذه المحاضرة ذات أهمية كبرى في تقديرنا، وفضلا عن أنها ألقيت أصلا بالعربية، فإنها تسد فجوة في تاريخ المنطق من خلال تسليط الضوء على إسهامات العلماء في العالم الإسلامي، خاصة بعد القرن الثاني عشر للميلاد الذي عادة ما وصف بالانحطاط؛ كما تعد مصدراً قيماً لفهم تعقيدات التاريخ الفكري في العالم الإسلامي. وإلى كل هذا، يمكن أن نضيف أن هذه المحاضرة تقدم صورة مجملة لمجموع أعمال الرويهب الجارية في هذا المجال.
الكلمات المفاتيح: المنطق العربي، الفلسفة العربية الإسلامية، المدرسة الأرسطيّة الإسكندرانيّة، أورغانون، الفارابي، ابن سينا، الرازي، الخونجي، الكليات الخمس، علم الكلام المتأخر، مناطقة المغرب، المدرسة العثمانية التركية.
نص المحاضرة
يمكن إرجاع بدايات ما وُضع في العربيّة في علم المنطق إلى حركة الترجمة من اليونانية إلى العربيّة منذ أواخر القرن الثامن حتّى بدايات القرن العاشر للميلاد. وقد ظهرت في بدايات القرن العاشر في بغداد مجموعة من العلماء الذين رأوا أنّهم يشكّلون استمرارًا للمدرسة الأرسطيّة الإسكندرانيّة. أبرز هؤلاء، من دون شكّ، أبو نصر الفارابيّ (ت. 339هـ/950م) الذي وضع شروحات طويلة وأخرى قصيرة على أعمال أورغانون الأرسطيّة، والتي لم يصلنا كثير منها. علاوة على ذلك، كتب الفارابيّ أعمالًا مبسَّطةً هدفت، من ناحية، إلى تقديم مصطلحات منطقيّة في العربيّة، ومن ناحية أخرى إلى إبراز إيجابيّات دراسة المنطق في محيط غالبًا ما نظر إلى ”العلوم القديمة“ نظرة مشوبة بعدم الفهم أو العداوة.
وممّن برز أيضًا في المجموعة الأرسطيّة في بغداد تلميذُ الفارابيّ، يحيى بن عديّ المسيحي (ت. 363هـ/974م)، وتلاميذُ هذا الأخير: ابن زرعة (ت. 398هـ/1008م)، وابن سوار (ت. بعد 407هـ/1017م)، وتلميذُهم أبو الفرج ابن الطيّب (ت. 434هـ/1043م) الذي وصلنا شرحه على مقولات أرسطو وشرحه على إيساغوجي فرفوريوس. وقد امتدّ تأثير الأرسطيّة البغداديّة في أواخر القرن العاشر إلى الأندلس حيث ازدهرت في القرنَين التاليَين بفضل علماء بارزين أمثال ابن باجّة (ت. 533هـ/1138م) وابن رشد (ت. 595هـ/1198م) —وهو أشهرهم—والذي كان لشروحاته على أعمال أرسطو قدرٌ كبير من التأثير في الغرب اللاتينيّ.
غير أنّ تأثير ابن سينا (ت. 428هـ/1037م)، الذي كان ينشط في آسيا الوسطى وبلاد فارس، حلّ، على نحو تدريجي، محلّ الأرسطية البغداديّة في العالم الإسلاميّ. كان ابن سينا نفسه منتمياً إلى المنحى النيو-أفلاطونيّ الأرسطي، غير أنّ منهجيته لم تكن منهجية شارح أو معلّق، بل منهجية مفكّر لامع جريء ومستقل، لا يقبل أن يكون تَبَعًا لأحد. فقد رفض ممارسة الفلسفة بالاجتهاد في شرح النصّ الأرسطيّ وشدّد على أهمّيّة ما سمّاه بالتحقيق، أي التقييم النقديّ للآراء الموروثة.[1]
كان تأثيرُ ابنِ سينا كبيرًا جدًّا، إذ احتلّت أعمالُه مكان أعمال أرسطو (ت. 322 ق.م) لتصبح منطلَق المنطقيّين الذين كتبوا بالعربيّة. ويصعب أن نجد فيمن كتب بالعربيّة بعد منتصف القرن الثالث عشر من اعتنى على نحو مباشر بعمل منطقي تقدّم على ابن سينا. وكانت الأندلس آخر المناطق مقاومةً لهذا التأثير، إذ استمرّ ابن رشد الحفيد وتلميذه ابن طُملوس (ت. 620هـ/1223م) في العمل على منطق هو أقرب إلى المنطق الأرسطيّ. غير أنّ منطق ابن سينا (وقد غيّر فيه عدد من العلماء اللاحقين) صار المهيمنَ بعد القرن الثالث عشر حتّى في المناطق الغربيّة للعالم الإسلاميّ؛ وقد وثّق هذا الواقع، بشيء من الأسى، المؤرخ ابن خلدون (ت. 808هـ/1406م).[2]
إنّ التطوّرات المختلفة في المنطق العربيّ والمنطق اللاتينيّ في العصور الوسطى اللاحقة هي—إلى حدّ كبير —نتيجة الفرق الجذريّ في تلقّي كتابات ابن سينا في المنطق. فإن عُرفت بعض كتابات ابن سينا في الإلهيات والطبيعيّات في العالم اللاتينيّ، فإن معظم كتاباته في المنطق لم تُعرف. فلم يُترجم إلى اللاتينيّة أيّ من كتب المنطق من موسوعته الفلسفيّة الشفاء كاملًا سوى الكتاب الأول، وهو الذي يقابل إيساغوجى فرفوريوس في الأورغانون الأرسطيّ.[3] وبذا، بقيت أبرز إسهامات ابن سينا في المنطق مجهولة لدى العلماء اللاتينيّين اللاحقين.
التقت الفلسفة العربيّة (أي مدرسة الفلسفة العربيّة النيو-أفلاطونيّة الأرسطيّة) على مدى القرنَين الحادي عشر والثاني عشر للميلاد وجهًا لوجه مع علم الكلام الإسلاميّ. فحاول جماعةٌ من المتكلّمين دحضَ عدد من الآراء في الإلهيات والطبيعيات النيو-أفلاطونيّة والأرسطيّة، ولا سيّما تلك التي عدّوها غيرَ موافقة للعقيدة الإسلامية. وفي الوقت نفسِه، عارض عددٌ من فلاسفة القرن الثاني عشر للميلاد بعضًا من آراء ابن سينا وحججه. وقد عاد هؤلاء، في بعض الأحيان، إلى الولاء لفلسفةٍ أرسطيّةٍ أكثر محافظة، كما هو حال ابن رشد الحفيد، أو إلى الولاء للفلسفة الأفلاطونية المعارضة للأرسطيّة، كما هو حال السهرورديّ المقتول (ت. 597هـ/1191م). ومع هذا، من علماء القرن الثاني عشر للميلاد من تبنّى رفضَ ابن سينا تبجيلَ سابقيه، واتّخذ من هذا الرفض منطلقًا لمعارضة ابن سينا نفسِه. ويتجلّى خطاب رفض التقليد—حتّى تقليد ابن سينا نفسه—في مقدّمة تهافت الفلاسفة، العمل المشهور الذي يهاجم فيه الغزاليّ (ت. 505هـ/1111م) النيو-أفلاطونيّة الأرسطيّة. وتتجلّى روحُ الرفض نفسُها في كتاب المعتبَر في الحكمة، للفيسلوف اليهوديّ الأصل أبي البركات ابن ملكا البغداديّ (ت. 547هـ/1152م).
إنّ تصادمَ مدارس فكريّة مختلفة—علم الكلام الإسلاميّ، ومدرسة ابن سينا، ومدرسة أرسطو، ومدرسة أفلاطون—أسهم في ما سمّاه فرانك غريفيل (Frank Griffel) ”التحوّل الجدليّ“ في الفلسفة الإسلاميّة في القرن الثاني عشر للميلاد؛[4] وهو الاستعداد لإعادة النظر والمناظرة في المقدّمات والافتراضات التي تعتبرها مدرسةٌ فكريّة معيّنة مثبَتةً، إن هي تُركت لرَغبتها الخاصّة. ففي المنطق، على سبيل المثال، أعيد النظر في رفض ابن سينا والأرسطيّين العرب المتقدّمين للشكل الرابع من القياس. وكان نجم الدين ابن السري (ت. 548هـ/1153م) أوّلَ علماء الحضارة الإسلامية الذين دافعوا عن هذا الشكل. وقد أقدم على هذا الأمر على الرغم من معرفته أنّ المنطقيّين السابقين الذين ألِفَهُم كانوا قد رفضوا هذا الشكل، ومن ضمنهم جالينوس (ت. ح 216 ق.م) الذي قيل أحيانًا إنّه اعترف به، على الرغم من أنّ أعمال جالينوس لا تؤيّد ما نُسب إليه، كما نبّه عليه ابن السري نفسُه.[5]
وقد تواصلت الروح النقدية في القرن الثالث عشر للميلاد الذي كان فترةً خصبة في تاريخ المنطق العربيّ. وقد أشارت الكتابات في الحضارة الإسلاميّة نفسها إلى هذا بالتمييز بين المنطقيّين المتقدّمين والمتأخّرين، وقد وقع الفصلُ بينهم في نهايات القرن الثاني عشر وبدايات الثالث عشر للميلاد. فمع علماءٍ أمثال فخر الدين الرازيّ (ت. 606هـ/1210م) وأفضل الدين الخونجيّ (ت. 646هـ/1248م)، أعيد توجيه علمُ المنطق بشكل حاسم. فقد توقّف المناطقة عن اتّخاذ أبواب أورغانون الأرسطيّة مبدأً تنظيميًّا، وقدّموا تصورًا بديلاً لعلم المنطق، باعتباره يُعنى بالقواعد العامّة لاكتساب تصوّرات جديدة بناءً على تصوّرات معروفة وذلك عن طريق التعريفات، ولاكتساب تصديقات جديدة بناءً على تصديقات معروفة وذلك عن طريق الحجج. ومنذ ذلك الحين، صارت الكتابات في المنطق تبدأ بتقسيم العلم إلى تصوّر وتصديق، ثمّ تُعنى بالتصوّرات واكتسابها فتناقش الكلّيّات الخمس (الجنس والنوع والفصل والعرض الخاصّ والعرض العامّ)، وأقسام الرسوم والحدود. ثمّ كانت تتنقل إلى التصديقات واكتسابها، فتناقش القضايا الحملية والشرطية والموجهات وأحكامَها مثلَ العكس وعكس النقيض، ثم القياسات الحملية والشرطية والمختلطات. في هذا التقسيم لم يكن هناك متّسع لـمقولات أرسطو، وكان هناك مكانٌ محدودٌ جدًّا للجدل والخطابة والشعر والمغالطات التي مثّلت الكتب المتأخرة من الأورگانون الأرسطي. وعادةً ما يميّز بين القياس البرهانيّ والجدليّ والسفسطائيّ والخطابيّ والشعريّ بشكل مقتضب في مؤلَّفات المتأخرين، بينما كان جُلُّ اهتمامهم منصب على القياسات الاقترانية الشرطية والمختلطات.
وقد رفض الرازيّ والخونجيّ الإسهام في المنطق عن طريق الشروحات التبجيليّة، مُقدمين بجرأةٍ عرضهما الخاصّ لهذا المجال العلمي، فكان لـملخّص الرازيّ وكشف الأسرار للخونجيّ تأثيرٌ خاصّ. وتلاهما عددٌ من العروض المطوَّلة المستقلّة للمنطق على يد الأبهريّ (ت. 663هـ/1265م) والطوسيّ (ت. 672هـ/1274م) والكاتبيّ (ت. 675هـ/1276م) والأرمويّ (ت. 682هـ/1283م) وابن واصل الحموي (ت. 697هـ/1298م) وشمس الدين السمرقنديّ (ت. 722هـ/ 1322م). فإنّ عدد المطولات المستقلة في القرن الثالث عشر للميلاد لافتٌ للنظر، وهو منقطِعُ النظير في أي قرن آخر في التاريخ الإسلاميّ.
وصارت دراسة المنطق في المدارس أمرًا ثابتًا في القرن الثالث عشر أيضًا؛ ويشهد لهذا الأمر انتشار متون المنطق، وهي عروضٌ موجَزة للمنطق استدعت وضعَ عددٍ كبير من الشروحات في القرون اللاحقة. من الأمثلة على هذا جُمل الخونجيّ، وإيساغوجي الأبهريّ، وشمسيّة الكاتبيّ، ومطالع الأنوار للأرمويّ. وبات المنطق، منذ ذلك الوقت، جزءًا مُهمًّا في المنهج التعليميّ للمدارس في معظم أنحاء العالم الإسلاميّ. لا شكّ أنّه كان لمعارضة دراسة المنطق حظ في بعض الأوساط الدينيّة الأكثر محافظةً، لا سيّما في العالم العربيّ الإسلاميّ، أي ما سوى العالم التركيّ-الفارسيّ. غير أنّ هذه المعارضة مثلّت رأيَ الأقليّة وصولًا إلى العصر الحديث، وإن عادت إلى الواجهة في القرنين التاسع عشر والعشرين مع ظهور الحركة السلفيّة.
لمّا صار المنطق جزءًا طبيعيًّا من بيئة المدرسة، تخلّى عن العلاقة الوثيقة التي وُجدت، في الأصل، بينه وبين الفلسفة الأرسطيّة/النيو-أفلاطونيّة. وأقام، عِوضًا عن ذلك، علاقاتٍ جديدة مع علوم أخرى، ولا سيّما أصول الفقه والكلام والنحو والبلاغة، فحفلَتْ الكتبُ اللاحقة الموضوعة في أصول الفقه والكلام بالمصطلحات والأشكال القياسية المأخوذة من المنطق. ويشتمل بعضُ هذه الكتب على فصولٍ افتتاحيّة في المنطق، منها، مثلًا، مختصر المنتهى للعالم المصريّ ابن الحاجب (ت. 646هـ/1249م)—وهو كتاب ذو أثر عظيم في أصول الفقه المالكي والشافعي— وطوالع الأنوار، وهو كتاب في علم الكلام للعالم الفارسيّ القاضي البيضاويّ (ت. 685هـ/1291م). وترد المصطلحات المنطقيّة في الأعمال الهامة للنحويَّين المتأخرين كابن الناظم (ت. 686هـ/1287م) وابن هشام (ت. 761هـ/1360م) عند مناقشة تعريفات مصطلحات النحو؛ ويتضّح بهذا أنّ الاطّلاع على مبادئ المنطق كان متوقّعًا من القرّاء. ويتّضح التوقّعُ نفسُه في الأعمال العربيّة اللاحقة في البلاغة، كما يظهر من كتاب في غاية الأهمّيّة هو تلخيص المفتاح للخطيب القزوينيّ (ت. 739هـ/ 1338م)، وشروحاته الكثيرة اللاحقة. فأيًّا كان ذلك التعارض الذي وُجد في القرون الإسلاميّة المبَكّرة بين النحو العربيّ وعلم المنطق المستوحَى من اليونانيّة، فإنه لم يَعُدْ واضحًا بعد القرن الثاني عشر.
أمّا في القرن الرابع عشر للميلاد، فقد خضع التراث العربيّ المنطقي لتحوّلَين مهمّين:
أوّلهما، أنّ عادةَ كتابة المطولات المستقلّة خَبَتْ بشكلٍ ملحوظ، مفسحةً المجال أمام سيطرة الأشكال الأدبيّة من المتون، والشروح، والحواشي، عِلاوةً على الرسائل الموضوعة في مواضيع محدَّدة. وقد استخفّ كثيرٌ من الباحثين والمفكرين، في القرن العشرين، بالشروحات والحواشي بشكل عام، إذ عُدَّت أعمالًا متحذلِقَةً وغيرَ أصيلة. وقد اعتبرت دراسات مثل دراسة إبراهيم مدكور، أورگانون أرسطو في العالم العربي،[6] ودراسة نيكولاس ريشير (Nicholas Rescher) ، تطور المنطق العربي،[7] انتشار الشروح والحواشي دليلا على انحطاط المنطق العربيّ. ومن الواضح أنّ في هذا الحكم تعميما غير موجّه وغير دقيق. فقد ارتبط التراث المنطقي العربي منذ بداياته بشرح كتب الأورگانون، فما كان ينطبق على الفارابيّ مثلًا في القرن العاشر للميلاد، انطبق على المنْطقيّين العرب والمسلمين بعد القرن الثالث عشر للميلاد؛ إذ كان من المتوقع أن يتلطف الشرّاح وأصحاب الحواشي مع الأعمال التي يشرَحونها، غير أنّهم ناقشوا في كثير من الأحيان الأفكارَ المتلقّاةَ مناقشةً نقديّة، أو توسّعوا فيها، أو خالفوا أصاحب المتن أو الشرّاح السابقين.
وإن قلنا هذا، فلا شك أن انتشارَ هذه الأشكال الأدبيّة من شروحات وحواشٍ بعد القرن الثالث عشر للميلاد يشير إلى أنّ المنطقَ عاد ليرتبط مجددًّا بتفسير النصوص، وذلك بعد فترة فاصلة بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر للميلاد التي ضعُفت فيها العلاقةُ بين المنطق والشرح الحرفي، ويعود ذلك—على نحوٍ جزئيّ على الأقلّ—إلى ثقة ابن سينا وفخر الدين الرازيّ والخونجيّ بأنفسِهم ورفضِهم كثيرًا من المعتقدات الموروثة.
أمّا التحوّل الرئيسي الثاني، في القرن الرابع عشر، فهو تغيّر في نقطة التركيز، وهو أمر يُلاحظ في العالم الإسلاميّ الشرقيّ بشكل خاصّ. فقد اهتمّ مناطقة القرن الثالث عشر اهتمامًا شديدًا بأحكام القضايا من عكسٍ، وعكسِ النقيض، ولوازم الشرطيات، والقياسات الحملية والشرطية، والمختلطات. فيخصّص الخونجيّ مثلًا حوالي 70% من مؤلّفه كشف الأسرار لهذه الموضوعات الصوريّة. ومع حلول النصف الثاني من القرن الرابع عشر للميلاد، بدأ هذا الاهتمام بالتقلّص على نحوٍ جليّ عند مناطقة الشرق الإسلاميّ، بل صارت الأقسام الأولى من متون المنطق—والتي تُعنِى بمسائل كتقسيم العلم إلى تصوّر وتصديق، وتقسيم التصور والتصديق الى ضروري ومكتسب، وموضوع علم المنطق، والدلالة الوضعية، والكلّيّات الخمس (الجنس والنوع والفصل والعرض الخاصّ والعرض العامّ)، وأقسام القضايا أهي ثلاثة أم أربعة، وهل يجوز أن يكون المحمول جزئيا، وهل مقدّم وتالي الشرطية قضيّتان أم لا، هي المسائل التي تُناقَش بشكل أكثر كثافةً.
والسؤال الجليّ هنا هو عن سبب هذا التحوّل. وتصعُبُ الإجابةُ عن هذا السؤالِ إجابةً أكيدة، غير أنّه يُرَجّح أنّه ارتبط بتطوّرَين فكريَّين عامين.
أوّلهما، الازدياد الهائل في الاهتمام بعلم المعاني والبيان. فقد أسهم كثير من المناطقة المشرقيّين، بعد منتصف القرن الرابع عشر للميلاد، مثل السعد التفتازاني (ت. 792هـ/1390م) والشريف الجرجاني (ت. 816هـ/1413م)، في ازدهار الكتابة في حقل المعاني والبيان هذا. ويُستبعد ألّا يكون لهذا علاقةً بتحوّل التركيز في أعمال المنطق إلى المسائل اللغويّة والدلاليّة.
أمّا التطوّر الفكريّ الثاني؛ الذي تزامن مع تحوّل تركيز المنطقيّين الشرقيّين في القرنين الرابع عشر والخامس عشر للميلاد فهو التحوّل الفلسفيّ الملحوظ في الكلام الإسلاميّ. وتظهر عمليّةُ التحوّل بشكل جدّيّ في كتابات فخري الدين الرازيّ وسيف الدين الآمديّ (ت. 631هـ/1233م)، وقد تقوت في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. وتكاد المناقشات الميتافيزيقية والفيزيقية عند الفلاسفة الأرسطيّين تشغل ثلثَي الأعمال الكلاميّة التي دُرست بشكل واسع، مثل تجريد العقائد لنصير الدين الطوسيّ، وطوالع الأنوار للبيضاويّ، والمواقف لعضد الدين الإيجيّ (ت. 756هـ/1355م). ولا يُخصَّص إلّا الثلث الأخير من هذه الأعمال، تقريبًا، للمسائل التقليديّة في علم الكلام، مثل الأدلّة على وجود الله، وصفاته، ومسألة خلق أفعال العباد، ومسألة خلق القرآن. ونكرّر القول بأنّه يُستبعد ألّا يكون لهذا علاقة مع تحوّل تركيز المنطقيّين، ذلك أنّ هناك تشابهًا كبيرًا بين المسائل المناقَشة في الأقسام الأولى الفلسفيّة من كتب الكلام الجديدة، وتلك المناقشة في الأقسام الأولى من كتب المنطق، مثلًا: مباحث موضوع العلم، وتعريف العلم، وتقسيمه إلى تصوّر وتصديق، وتقسيم كليهما إلى بديهيّ ومكتسَب، ومسألة وجود الكلّيّات، وطبيعة الحمل. وهنا أيضاً نرى تشابهًا كبيرًا بين لائحة المنطقيين الشرقيّين البارزين من القرن الرابع عشر إلى القرن السادس عشر للميلاد ومجموعة المتكلّمين الفلسفيّين المشرقيّين في الفترة نفسِها.
وتمكن الإشارةُ، دعمًا لهذا التفسير، إلى أنّ التحوّل عن الاهتمام بمنطق الموجّهات والشرطيات لُوحظَ على نحوٍ أقلّ بكثير في المغرب، حيث قلّ الاهتمامُ بعلم المعاني والبيان عمّا كان عليه في المشرق، وذلك حتّى القرن السابع عشر للميلاد على أقلّ تقدير. ومعلومٌ أيضاً أن عامة أشاعرة المغرب كالسنوسي (ت. 895هـ/1490م) رفضوا التوغّل في المباحث الفلسفية في الكتب الكلامية المشرقية، وإن كنا نعترف ببعض الاستثناءات كالمختصر الشامل لابن عرفة التونسي (ت. 803هـ/1401م) مثلاً.
وأُريد أن أؤكدَ أنّ اهتمامَ المغاربة بالمنطق في هذه القرون لم يكن أقلَّ من اهتمام غير العرب. والملاحظ أن المتون المتداولة لم تكن متعارفةً خارج المغرب ومصر، فصاحب كشف الظنون، مثلًا، وهو في مدينة استنبول، لم يذكر مختصر السنوسي ويقول خطأً إن السلم للأخضري (ت. 953هـ/1546م) هو نظم إيساغوجي للأبهري، ويقول خطأً إن الجمل للخونجي هو مختصر لكتاب مسمّى نهاية الأمل، والصحيح أن نهاية الأمل هو عنوان شرح ابن مرزوق الحفيد (ت842هـ/1439م) للجمل.
ونرى العالِمَ الهنديَّ الأصل نزيلَ مصر مرتضى الزبيدي (ت. 1205هـ/1790م) يقول إنّ العلماء المغاربة في أيامه كان يُشار إليهم بالبَنان لتضلّعهم في علم المنطق. وبالفعل نرى أنّ كبارَ العلماء في مصر في عصر الزبيدي —أي القرن الثاني عشر الهجري— قد درسوا المنطق على أيدي علماء مغاربة نزِلوا القاهرة كعبد الله الكنكسي ومحمد الورزازي (ت. 1138هـ/1726م) وهم تلاميذٌ بدورهم لعلماء مغاربة نبغوا في المنطق كالحسن اليوسي (ت. 1102هـ/1691م) وابن يعقوب الولالي(ت. 1128هـ/1716م).
وقد أبقى مناطقة المغرب، حتّى منتصف القرن الثامن عشر، تركيزَهم مُنْصَبًّا على القضايا وأحكامِها والشرطياتِ ولوازمِها والقياسات الشرطية والمختلطة، وذلك في الفترة التي قلّ فيها اهتمام نظرائهم في المشرق بهذه المسائل وكثُر التعمّق في مسائل ميتافيزيقيّة وإبيستيمولوجيّة ودلاليّة تطرّقوا إليها في الأقسام الأولى من متونهم المنطقية. ويمكن إبراز التركيز المتباين بمقارنة شرحَين من القرن الرابع عشر دُرِسا على نطاق واسع، وهما بالحجم نفسِه تقريبًا: الأول شرحُ العالم الفارسيّ قطب الدين الرازيّ (ت. 766هـ/1365م) على شمسيّة الكاتبيّ، والثاني شرحُ الشريف التلمسانيّ (ت. 771هـ/1370م) على جُمل الخونجيّ. يُخصّص العمل الأوّل ما يقارب 32% من مجمل عدد صفحاته لمناقشة مسائل تمهيديّة واكتساب التصورات، بينما يخصّص الثاني 16% للغرض نفسه. ويُخصّص الأوّل حوالي 36% لأحكام القضايا والقياس الصوري، بينما يخصّص الثاني حوالي 64% لهذا الغرض. ويمكن المقارنة بين كتابَين من أواخر القرن السابع عشر، أحدُهما قصيدةٌ لامية في المنطق وشرحٌ لها للعالم المغربيّ ابن يعقوب الولّاليّ المكناسي، وثانيَهما متن سلّم العلوم لمحبّ الله البِهاريّ الهندي (ت. 1119هـ/1707م). يخّصص الولّاليّ أكثر من نصف عمله (57%) لأحكام القضايا والقياس من حيث الصورة، بينما لا يخصّص البهاريّ سوى خُمس عمله (20%) لهذه المباحث.
بعد القرن السادس عشر، تجزّأَت المدرسةُ الشرقيّة الإسلاميّة للمنطق وِفقًا للإمبراطوريّات الثلاث: العثمانيّة، والصفويّة، والمغوليّة. منذ ذلك الحين، قلّ الاتّصال بين علماء هذه الكيانات السياسيّة الثلاثة، ومال كلّ منهم إلى تطوير منهجه الدراسيّ المختلف في علم المنطق. وبقيت المشاركة في كثير من متون القرنَين الثالث عشر والرابع عشر الأساسيّة، غير أنّ كلَّ مدرسةٍ كانت تَشْفَعُها بطرق مختلفة.
ففي إيران الصفويّة، وُجد اتّجاهٌ مهمّ إلى استعادة منطق ”القدماء“. وقد كان هذا جزءًا من حركة فكريّة أوسع في إيران الصفويّة حاولَت العودة إلى الحكمة الفلسفيّة القديمة التي مثّلها، على سبيل المثال، كتاب أثولوجيا المنسوب خطأً إلى أرسطو، أو فصوص الحكمة المنسوب خطأً إلى الفارابيّ. ووُجد أيضًا اهتمامٌ متجدّد بكتاب الشفاء لابن سينا في إيران الصفويّة وما بعد الصفويّة، فكُتبت عددٌ من الحواشي عليه. ومن الإشارات الأخرى على هذا الاتّجاه وجودُ عدد من مخطوطات إيرانيّة صفوية لتلاخيص ابن رشد لكتب أرسطو الأربعة: المقولات، والعبارة، والقياس، والبرهان. وتُبدي بعضُ الأعمال الصفويّة في المنطق، مثلُ أعمال ملّا صدرا (ت. 1050هـ/1635م) وملّا أولياء (كان حيا عام 1101هـ/1690م)، اهتمامًا متجدّدًا في موضوعات تمّ تناولُها في كتاب البرهان لأرسطو، كما أنّها تركت الشكلَ الرابع من أشكال القياس على اعتبارِ أنّه بعيدٌ عن الطبع.
شهد القرنُ السابع عشر ظهورَ مدرسةٍ للمنطق العربيّ في شبه القارّة الهنديّة. ومع حلول أواخر القرن الثامن عشر، صارت المدرسة الهنديّة-الإسلاميّة للمنطق تُبهرُ علماءَ جامعة الأزهر في مصر كحسن العطار (ت. 1250هـ/1835م). وفي أواخر القرن التاسع عشر، صارت الأعمالُ الهنديّة-الإسلاميّة في المنطق تُطبع في القاهرة وفي قازان في تترستان الروسية، الأمرُ الذي يشير إلى أنّها كانت تُدرّس في هاتَين المدينتَين أيضًا. وشغلت دراسةُ المنطق دورًا بارزًا في مدارس شبه القارّة الهنديّة، كما هو الحال في المنهج الدراسيّ المسمّى درسِ نظامي. ومن كتب المنطق المهمّة في هذه المنطقة سلّم العلوم لمحبّ الله البهاريّ. وقد ذَكَرتُ هذا العمل آنفًا، مقارنًا بينه وبين عمل آخر لابن يعقوب المكناسي المعاصر له.
يدلّ عملُ البهاريّ وشروحاتُه الكثيرة على محور تركيز المنطق العربيّ في شبه القارّة الهنديّة في هذه القرون المتأخّرة. فقُرِن المنطقُ بمناقشة متقدّمة وعميقة لمسائل ميتافيزيقيّة وإبيستيمولوجّة، منها مثلًا: تعريف العلم، وتقسيمه إلى تصوّر وتصديق، والوجود الذهني للماهيات، واتحاد العاقل والمعقول، ومسألة موضوع العلم، وطبيعة المعقولات الثانيّة، ومسألة التشكيك في الجواهر، ووجود الكليات في الخارج. وقد نوقش، أيضًا، عددٌ من المغالطات المنطقيّة، منها، مغالطةُ المجهول المطلق ومغالطةُ الجذر الأصم. وبالمقارنة لم يكن هناك مزيدُ اهتمامٍ بأحكام القضايا ولوازم الشرطيات والقياسات الشرطية والمختلطات.
وقد دُرس المنطق أيضًا بشكل مكثّف في الإمبراطوريّة العثمانيّة. أمّا من حيث الكتب والتركيز، فكان منهج التدريس في المناطق التُركيّة أقربُ إلى مناهج بلاد فارس والهند ممّا هو إلى شمال إفريقيا –بما في ذلك تلك البلدان التي كانت تحت الحكم العثمانيّ-. هذا يعني أنّنا لا نستطيع الحديث عن مدرسة ”عثمانيّة“ في المنطق من دون تقييد، لكن يمكن الحديث عن مدرسة عثمانيّة-تركيّة، على الرغم من أنّ أعمالَ المنطق غالباً ما كانت تُكتب بالعربيّة حتّى القرن التاسع عشر. وكما هو الحال في الهند المغوليّة، تكوّنت المراحلُ الأكثرُ تقدّمًا في دراسة المنطق في المدارس العثمانيّة-التركيّة من الدراسة المتعمّقة للميتافيزيقيا، والمسائل الإيبيستيمولوجيّة والدلاليّة المثارة في الأقسام الأولى من المتون المعتمَدة في هذا الحقل.
ومن السِمات المميّزة للمدرسة العثمانيّة-التركيّة الاهتمام الشديد بـآداب البحث، وهي نظريّة المناظرة الصُوَرية التي صيغت في أعمال شمس الدين السمرقنديّ. فإنّ الإسهام العثمانيّ التركيّ في هذا الحقل واضح ولا مثيل له في أي منطقة أخرى من العالم الإسلاميّ. وكانت إحدى نتائج هذا العمل المكثَّف على آداب البحث الاهتمام المتجدّد في صياغة الحجج الجدليّة في شكل قياسيّ صريح. وقد أدّى هذا الاهتمام المتجدّد بالتنظيم القياسيّ إلى الاهتمام بما يُسمّى ”قياسات غير متعارَفة“،وهي استدلالات منتجة من حيث الشكل لم يُعتَرف بها في المنطق الأرسطيّ الكلاسيكيّ. فعلى سبيل المثال، تمّت صياغة اعتراض جدليّ على تعريفٍ ما في أحد الكتب العثمانيّة على شكل القياس الآتي:
تعريفُك هذا مستلزمٌ للدور
الدور محال
فإذاً تعريفُك هذا مستلزمٌ للمحال
فمثل هذا القياس المسمّى بـ”غير المتعارَف“ هو، في الواقع، قياس النسبة أو ما كان يُسمى عند المناطقة اللاتينيين القياس المائل (oblique). وعلى الرغم من أنّ هذه الحجج منتجةٌ من حيث الصورة، إلّا أنّه لم يُعترف بها في المنطق الأرسطيّ الكلاسيكيّ. لكن بَدءًا من فخر الدين الرازيّ في القرن الثاني عشر للميلاد، ومروراّ بجلال الدين الدواني (ت. 908هـ/1502م)في القرن الخامس عشر للميلاد، اقترح بعضُ المناطقة المسلمين أنّ مثلَ هذه الاستدلالات منتجةٌ من دون الحاجة إلى تحليلها الى القياسات الأرسطيّة المتعارفة ذات الحدود الثلاثة.
نظرًا إلى قرب العثمانيّين الجغرافيّ من أوروبا الغربيّة، كانوا من أوّل من تعرّض في العالم الإسلاميّ إلى مدرسة المنطق اللاتينيّ. وقد ظهر بعض الاهتمام بالتعليم الأوروبيّ في البلاط العثمانيّ، وذلك في فترة حكم محمّد الرابع (حكم 1648-1687م) وأحمد الثالث (حكم 1703-1730م). وقد ترجم العالم والقاضي العثمانيّ أسعد اليانيوي (Esʿad Yānyavī) (ت. 1143هـ/1731م) مؤلّفًا في المنطق لإيوانيس كوتونيوس (Ioannis Cottunius) (ت. 1658م) الأرسطيّ اليونانيِّ الأصل، المستقرّ في بادوا في ايطاليا، وأهدى العمل للسلطان أحمد الثالث.
وشهد القرن السابع عشر للميلاد بداية ازدهار أدبيّ وثقافيّ بين المسيحيّين العرب في المشرق. وقد ارتبطت هذه الحركةُ في بدايتها بالجهود التبشيريّة التعليميّة للكاثوليكيّة المعارضة للإصلاح البروتستانتيّ.
وقد تأسّست جامعة مارونيّة في روما عام 1584م، مُرّن طلّابُها في مجموعة من الفنون، منها اللاتينيّة والعربيّة والسريانيّة والمنطق والفلسفة. وقد عاد الكثير منهم إلى أوطانهم ليَشغَلوا مناصبَ دينيّة وتعليميّة مؤثّرة. كما تأسّست جامعة مارونية أخرى في حلب في الشام عام 1666م، ويكاد دورها الثقافيّ والفكريّ لا يقلّ أهمّيّةً عن دور الأولى. وكانت جامعة البابا أوربان الثامن للتبشير، المؤسَّسة في روما عام 1622م، من المؤسّسات المهمّة الأخرى التي استقطبت مسيحيّي المشرق.
إنّ بعضَ جوانب هذه الحركة الثقافيّة الأدبيّة مألوفٌ لدى المؤرّخين المعاصرين. وقد نُظر إلى انتشار الطباعة في القرن الثامن عشر في الأوساط المسيحيّة المشرقيّة وبروزِ أدباء ونحويّين عرب مسيحيّين، بشكل خاصّ، على أنّها بوادر لما سُمّي بالنهضة العربية. ولم يحظَ ظهورُ مدرسةٍ عربيّة للفلسفة والمنطق بين المسيحيين العرب في القرنين السابع عشر والثامن عشر بالاهتمام نفسه.
وعلى الرغم من أنّ أعمال العرب المسيحيّين في المنطق قد كُتبت بالعربيّة، إلّا أنّها تختلف اختلافًا ملحوظًا عن المدرسة اللاحقة لابن سينا المنتشرة بين معاصريهم من المسلمين، وهي أقرب بكثير إلى مدرسة المنطق اللاتينيّة في أوروبا الكاثوليكيّة. غير أنّه يوجد ما يدلّ على أنّ المنطقيّين المسيحيّين الذين تكلّموا العربيّة كانوا على اطّلاع على بعض الكتب العربيّة-الإسلاميّة في المنطق، وأنّهم ضمّوا بعضَ نقاطِ هذه الكتب إلى مؤلفاتهم، ومن أهمّ هذه الأعمال الإيساغوجي للأبهري الذي طُبع مع ترجمة لاتينية في روما في عام 1625م. وللمسيحي الحلبيِّ الأصل عبد الله الزاخر (ت. 1161هـ/ 1748م) شرحٌ على متن الأبهري؛ وعبد الله الزاخر هذا قرأ في حلب على العالم المسلم سليمان النحْوي (ت. 1140هـ/1728م) الذي كان يدرّس علوم اللغة والمنطق لطلبة مسلمين ومسيحيين.
وبالتالي، وُجد حوالي العام 1800م ما لا يقلُّ عن خمس مدارس فرعيّة في المنطق العربي: الهنديّة-الإسلاميّة، والإيرانيّة، والعثمانيّة-التركيّة، والشمال إفريقيّة، والمسيحيّة العربيّة. واحتمالُ وجودِ غيرها قويّ. وقد كان لآسيا الوسطى، واليمن، وغرب إفريقيا الإسلاميّ مدارسَ علميّة مختلفة قد تستحقّ المزيدَ من الدراسة مع ظهور المزيد من المخطوطات.
إنّ غياب الدراسات الفرعية لا يسمح بتقديم أكثر من لمحة موجَزة عن التطوّرات في القرن التاسع عشر وما بعده. ولم تختفِ المدارسُ الفرعيّة الخمس بين ليلةٍ وضحاها، بل استمرّت على الأقلّ حتّى العقودِ الأولى من القرن العشرين.
تنامى التأثير الغربيّ بشكل متزايد في القرن التاسع عشر، فتُرجم كتاب المنطق (Logique) لـسيزار شيسنو دومارسايس (Cesar Chesneau Dumarsais)، من الفرنسيّة إلى العربيّة، ونُشر في القاهرة عام 1838 تحت عنوان تنوير المشرق في علم المنطق. كما تُرجم جزءُ المنطق من كتاب Elementi de filosofia للفيلسوف الإيطاليّ باسكال جالوپي (Pascal Galuppi) إلى التركيّة في عام 1861، ونُشر في اسطنبول تحت عنوان مفتاحُ الفنون. وكتب العالمُ التركيّ عليّ سداد (ʿAlī Sedād) عملًا مهماً بالتركية هو ميزان العقول في المنطق والأصول، عرَّف فيه القرّاءَ بالأفكار المنطقيّة الجديدة للمناطقة البريطانيّين مثل هاميلتون (Hamilton)، ودي مورغان (De Morgan)، وبُول Boole))، وجيفونز (Jevons). وقد حظِيَ ”المنطق الجبري“ أو ”المنطق الحسابي“ على مزيدِ دعم، بعد جيلٍ واحد، على يد صالح زكي (ت. 1921م) في كتابه ميزان تفكّر.
في الوقت نفسِه، زاد الميلُ إلى اللغات العامّيّة في تجزّؤ المدرسة الإسلاميّة الشرقيّة. فمع نهاية القرن التاسع عشر، كتب الباحثون العثمانيّون الأتراك (أمثال علي سداد وصالح زكي) على نحوٍ متزايدٍ أعمالًا في المنطق باللغة التركيّة بدلًا من العربيّة. كما بدأ المنطقيّون من الهند-الإسلاميّة يكتبون بالأُرديّة بشكل متزايد. وعزّز هذا الاتّجاه انتشارُ المؤسّسات التعليميّة الحديثة التي تختارُ اللغاتِ المحلّيّة المختلفة للتعليم، بدلًا من العربيّة.
عانت المدارسُ التقليديّة، في العالم السنّيّ على وجه الخصوص، من الميل إلى المركزيّة في الدول الحديثة التي غالبًا ما أمّمت الأوقاف—العمود الفقريّ الاقتصاديّ للمدارس—وتدخّلت في مناهج التعليم. وفي تركيّا الكماليّة، وُضِع حدٌّ للمنهج التعليميّ العربيّ على نحو شبه نهائيّ، كجزء من برنامج للعلمنة والاعتماد على اللغة التركيّة، والتي تضمّنت تأميم الأوقاف، وإغلاق المدارس التقليدية، واعتماد الحروف اللاتينيّة للّغة التركيّة، وغيرَها من الأمور.
وقد أدّى انتشارُ السلفيّة في القرن العشرين، لا سيّما في العالم العربيّ وشبه القارّة الهنديّة، إلى تراجع الاهتمام بالعلوم العقليّة في المدارس وإلى التركيز المتزايد على دراسة الحديث النبوي. وغالبًا ما شكّكت الطبقاتُ المتعلّمة الجديدة، التي درست في المؤسّسات التعليميّة الحديثة، بالمكانة العلمية للعلماء الذين تلقُّوا تعليمَهم في المدارس التقليدية، وذلك من منظور إيديولوجيّاتٍ مستوحاة من الغرب كالوضعيّة، والليبراليّة، والماركسيّة، والاشتراكيّة، والقوميّة، أو من منظور الأصوليّة الإسلامية المعادية للتراث المدرَسي التقليدي كما في حال أبو الأعلى المودوديّ في الهند، وسيّد قطب في مصر.
واستمرّت المدرسة المحلّيّة للمنطق بشكلٍ أقوى في الأوساط الشيعيّة، حيث كان لرجال الدين حصانة من السلفيّة (المعارضة للتشيّع بشدّة)، ونجحوا في الحفاظ على سلطتهم الدينيّة وقاعدتهم الاقتصاديّة المستقلّة بشكل أكبر؛ فقد حصد كتابُ المنطق للعالم النجفيّ محمّد رضا المظفّر (ت. 1964م) شهرةً واسعة في العقود الأخيرة، وقطع شوطًا طويلًا لأن يصبَحَ كتابًا معياريًّا في الكلّيّات الشيعيّة. أمّا في شبه القارّة الهنديّة، فلا تزال بعضُ الكتب العربيّة المتقدّمة، كسلّم العلوم للبهاريّ، تُدرَّس وتُشرح في بعض الأوساط. ويستمرّ علم المنطق التقليدي في معظم الأنحاء الأخرى من العالم الإسلاميّ، إن صحّ القول باستمراره، بشكل ضعيف حيث لم يُدرّس ويُطبع بشكل مستمر إلا أعمالٌ تمهيديّة فقط كالسلّم المرونق للأخضري أو الإيساغوجي للأبهري. غيرَ أنّ النهاية قد لا تكونُ عند هذا الحدّ، إذ إنّنا نجد اليومَ في العالم الإسلاميّ اهتمامًا كبيرًا بتحقيق أعمالِ ما قبل الحداثة في الفلسفة والمنطق. وليس هنالك ما يؤكّد، البتّةَ، أنّ هذا الأمرَ سيبقَى مشروعًا أثريًّا لن ينشّط، بشكل أو بآخر، المدرسة العربيّة للمنطق والتي يناهز عمرُها الألفَ عام.
للتوثيق
الرويهب، خالد. ”المنطق في الحضارة الإسلاميّة.“ ضمن موقع الفلسفة والعلوم في السياقات الإسلامية،
الرابط <https://philosmus.org/archives/3901>
خالد الرويهب
شكراً للدكتور فؤاد بن أحمد على هذه المقدمة الطيّبة. وأعتذر مسبقاً على آثار العُجْمة في محاضرتي اليوم، فقد طال اغترابي عن لبنان والسكن في بريطانيا وثم أمريكا. لكنني حريص على تبادل الأفكار مع الباحثين في العالم العربي؛ وأشكر الدكتور فؤاد أيضاً على هذه الفرصة لأن أتكلّم عن عملي العلمي باللغة الأمّ.
[1] Dimitri Gutas, Avicenna and the Aristotelian Tradition (Leiden: Brill, 2014), 214–217.
[2] ابن خلدون، المقدمة، تحقيق عبد السلام الشدادي (الدار البيضاء: بيت الفنون والعلوم والآداب، 2005)، ج. 3: 94–97.
[3] Amos Bertolacci, “The reception of Avicenna in Latin medieval culture,” in Interpreting Avicenna: Critical Essays, ed. Peter Adamson (Cambridge: Cambridge University Press, 2013), 245–248.
[4] Frank Griffel, “On Fakhr al-Dīn al-Rāzī’s Life and Patronage,” Journal of Islamic Studies 18 (2007): 64–71.
[5] Abdelhamid Ibrahim Sabra, “A Twelfth-Century Defence of the Fourth-Figure of the Syllogism,” Journal of the
Warburg and Courtauld Institutes 28 (1965): 14–28
[6] Ibrahim Madkour, L’Organon d’Aristote dans le monde Arabe ses traductions, son étude et ses application (Paris : Vrin, 1934).
[7] Nicholas Rescher, Development of Arabic Logic (Pittsburgh: University of Pittsburgh Press, 1964).
مقالات ذات صلة
في مشروعية الكلام السني ضدا على إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي (ت.505هـ/1111م): قطعة من موسوعة الأسرار والعبر لأبي بكر الطرطوشي (ت.520هـ/1126م)، تعريفٌ وتوصيف
On the Legitimacy of Sunni Theology against Abū Ḥāmid al-Ghazālī’s Iḥyāʾ ʿUlūm al-Dīn (d. 505/1111): A Section from Abū Bakr al-Ṭurṭūshī’s al-Asrār wa-l-ʿIbar (d. 520/1126) - Introduction and Description Fī Mashrūʿiyyat al-Kalām al-Sunnī Ḍiddan ʿalā Iḥyāʾ ʿUlūm al-Dīn...
منهج الغزالي في التأليف في علم المنطق
Al-Ghazālī’s Methodology in His Writings on Logic Manhaj al-Ghazālī fī al-Taʾlīf fī ʿIlm al-Manṭiq منهج الغزالي في التأليف في علم المنطق محمد رويMohamed Roui جامعة عبد الملك السعديUniversité Abdelmalek Essaadi ملخص: تتناول هذه الدراسة معالم منهج أبي حامد الغزالي...
مكانة ”الالتباس“ في الثقافة العربية الإسلامية في عصرها الكلاسيكي: بواكير منظور جديد
Navigating Ambiguity: Exploring the Role of Uncertainty in the Classical Arab-Islamic Culture Makānat Al-Iltibās fī al-Thaqāfah al- ʿArabiyya al-Islāmiya Fī ʿAṣrihā al-Klāsīkī:Bawākīr Manẓūr Jadīd مكانة ”الالتباس“ في الثقافة العربية الإسلامية في عصرها الكلاسيكي بواكير...
أثر فلسفة ابن رشد في الكلام الأشعري المغربي: دراسة في المنجز حول فكر أبي الحجاج يوسف المكلاتي (ت.626هـ/1229م)
The Impact of Ibn Rushd's (Averroes’) Philosophy on Maghribi Ashʿarī KalāmCurrent State of Studies on al-Miklātī (d.626/1229) Athar Falsafat Ibn Rushd fī al-Kalām al-Ashʿarī al-Maghribī: Dirāsa fī al-Munajaz ḥawl Fikr Abī al-Hajjāj Yusuf al-Miklatī (626/1229) Majda...
في مقاربة فلسفة الفعل عند الفخر الرازي: مراجعة نقدية لمقالة ”فلسفة الفعل ونظرية العادة التاريخية عند المتكلمين“
On the Approach to the Philosophy of Action in Fakhr al-Dīn al-Rāzī:A Critical Review of “Falsafat al-fiʿl wa-naẓarīyyat al-ʿādah al-tārīkhīyyah ʿinda al-mutakallimīn” Fī muqārabah Falsafat al-fiʿl ʿinda Fakhr al-Dīn al-Rāzī:Murājaʿat naqdīyyah li-maqālat “Falsafat...
أبو البركات البغدادي ومشكل الزمان
Abū al-Barakāt al-Baghdādī on The Problem of Time Abū al-Barakāt al-Baghdādī wa Mushkil al-Zamān Jalel DridiUniversity of Tunis, Tunis أبو البركات البغدادي ومشكل الزمان جلال الدريديجامعة تونس، تونس Abstract׃ The approach adopted by Abū al-Barakāt al-Baghdādī...
صورة العقل عند الشكّاك بين القديم والوسيط
Ṣūrat al-ʿaql ʿinda al-shukkāk bayna al-qadīm wa-al-wasīṭ Reason in the Ancient Skeptics and its Impacts during the Medieval Era صورة العقل عند الشكّاك بين القديم والوسيط سعاد جوينيجامعة تونس، تونس Souad JouiniUniversité de Tunis, Tunis Abstract: The creativity...
مشروعية النظر العقلي في تقرير العقائد عند المتكلمين: فخر الدين الرازي نموذجًا
Machrūʿiyat al-naẓar al-ʿaqlī fī taqrīri al-ʿaqāʾid ʿinda al-mūtakalimīn:fakhr al-Dīne al-Rāzī namūdhajan The legitimacy of Speculated Reasoning from the Perspective of Fakhr al-Dīne al-Rāzī مشروعية النظر العقلي في تقرير العقائد عند المتكلّمين: فخر الدين الرازي...
”ما هي الأعمال الفلسفية اليونانية القديمة […] التي ندين للعرب في أول معرفتنا بها؟“: عودة إلى نقاش ”قديم“
“Which of the works of the ancient Greek philosophers [...] do we owe the first knowledge to the Arabs?” Revisiting an “old” Dispute “Mā hiya al-Aʿmāl al-Falsafīyah al-Yūnānīyah al-Qadīmah [... ] allatī Nadīn lil-ʿArab fī Awwal Maʿrifitinā bihā? ” ʿAwdah ilá Niqqāsh...
ابن الهيثم والفلسفة: تأمّلات في سيرته الذاتية
Ibn al-Haytham and PhilosophyReflections on his Autobiography Ibn al-Haytham wa al-falsafahTaʾamulāt fī sīratih al-dhātiyyah Jalel Dridi ابن الهيثم والفلسفةتأمّلات في سيرته الذاتية[✯] جلال الدريدي Abstract: There is no shadow of doubt that Ibn al-Haytham is a great...